المعركة العسكرية التي يخوضها
التحالف العربي في
اليمن عبر قواته الجوية، ومن خلال الإسناد الميداني للجيش الوطني الذي تأسس عام 2015، لا تواجه إشكالية تذكر فيها من ناحية الإمداد والتمويل وفي تعداد القوات.
ومن ثم في القدرة على الحسم، لكنها تخضع على ما يبدو للحسابات السياسية بتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية، وتخضع كذلك للأجندات الخاصة للدول ذات الثقل في هذا التحالف ولأطراف عديدة أخرى.
فهذه الحسابات والأجندات تتشابك اليوم في جبهة
الحديدة، فيما لا تزال الخطوط الحمر تنتصب أمام التحالف، لكن ليس من جانب واشنطن هذه المرة، بل من جانب الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ، والوكالات التابعة للأمم المتحدة إلى جانب ائتلاف من المنظمات التي تعمل ضمن أجندات خاصة ازدهرت خلال فترة حكم الرئيس أوباما وتستثمر في الغالب التباين الطائفي سعيا منها إلى إعادة هندسة المنطقة بما يتفق مع التصورات المسبقة، والانحياز المتطرف للثقافة الغربية.
يعمل هذا الائتلاف بدأب وينشط بقوة في دوائر صنع القرار الغربية لتضخيم "الكارثة الإنسانية" المحتملة للعملية العسكرية التي يزمع التحالف تنفيذها في الحديدة، بغية تحرير المدينة ومينائها من قبضة الانقلابيين، ضمن مخطط تحرير الساحل الغربي للبلاد برمته بما يحقق أحد أهم أهداف التحالف العربي، وهو تأمين مضيق باب المندب وخطوط الملاحة الدولية في جنوب البحر الأحمر.
هذا الائتلاف من المنظمات يستغل كل القنوات والمنابر لتأليب الرأي العام والحكومات من أجل الضغط على التحالف العربي حتى لا يمضي قدما في تنفيذ خططه لتحرير مدينة الحديدة ومينائها، ويقوم بتنظيم زيارات لناشطين يمنيين يعملون في الداخل لحساب أجندة الانقلاب في اليمن بغرض إجراء نقاشات مع صناع القرار في واشنطن ولندن وباريس وغيرها.
هناك قلق حقيقي يعتري هذا الائتلاف من إمكانية مضي التحالف في خططه لتحرير الحديدة ومينائها، بالنظر إلى ما تمثله الحديدة من شريان حياة حقيقي للانقلابيين، الذين يحصلون على نحو 90 مليار ريال سنويا من العائدات الجمركية والضريبية على السلع التي يجري استيرادها عبر ميناء الحديدة.
إضافة إلى ذلك، فإن عددا من القادة المحسوبين على المليشيا يمضون قدما في إنشاء اقتصاد مواز من شأنه أن يؤمن مورد دعم مستدام لمجهودهم الحربي، نتيجة استثمارهم للبنى التحتية لميناء الحديدة الرئيس ومنشآت التخزين النفطية.
وسيشكل فقدان كل ذلك خطرا وجوديا على هؤلاء الانقلابيين، وبالتحديد
الحوثيين الذين ينعقد الرهان على إمكانية استثمارهم في التأثير على منطقة الجزيرة والخليج، وفي ممارسة الضغط على المملكة العربية السعودية، لا بصفتها الدولة الكبيرة المنتجة للنفط والمحسوبة على الغرب، بل بصفتها البلد الذي يتبنى عقيدة دينية هي، في نظر الناشطين في الائتلاف المنظمات الغربية هذه، الجذر الفكري للتنظيمات المتطرفة في العالم.
حتى الآن، ليس هناك توجه واضح المعالم للإدارة الأمريكية في ما يخص بمجريات الأحداث في اليمن، لكن هناك مؤشرات عديدة، تؤكد أن واشنطن لم تعد متمسكة كما كانت في السابق بالخطوط الحمراء في ما يخص تحرير صنعاء والحديدة، أو بتأمين مخرج سياسي مشرف للحوثيين.
بل على العكس، فهناك احتمالات أكدها نائب السفير الأمريكي الأسبق في اليمن، نبيل خوري، المعروف بتعاطفه مع الحوثيين، الذي صرح بما يفيد بأنه لا يستبعد أن يغير الرئيس ترمب موقف واشنطن حيال اليمن ليصل حد الانخراط المحتمل في الحرب، ضمن دائرة أهداف أمريكية واسعة لن تقتصر فقط على محاربة تنظيم القاعدة، بل قد تشمل الحوثيين.
يعود ذلك كما هو واضح، إلى التفهم الأمريكي للمخاوف الأمنية السعودية، من التهديدات العسكرية التي يمثلها الحوثيون المرتبطون بإيران، الذين حصلوا على المزيد من الأسلحة المتطورة، وبالأخص الصواريخ البالستية والصواريخ المضادة للدروع، عبر عمليات واسعة ومعقدة من التهريب.
ميناء الحديدة بات أحد أهم منافذ التهريب هذه، إلى جانب أن استمرار السيطرة العسكرية للحوثيين على الحديدة يبقي تهديدهم قائما للملاحة الدولية في جنوب البحر الأحمر.
لذا لم يعد من الممكن بقاء الحديدة تحت سيطرة الانقلابيين لهذه الأسباب التي لا يمكن تجاهلها، ليس فقط من جانب التحالف، وإنما أيضا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
لم نر المشهد السياسي والعسكري في اليمن يوما صافيا، فلا يزال رغم كل هذا التبدل في المواقف المؤثرة، محكوما بحسابات معقدة، حضرت فيها مصالح دول التحالف بشكل صارخ، وبدا أن أولوياتها ثقيلة على كاهل اليمنيين، الذين لا يريدون أكثر من استعادة الدولة على قاعدة الوفاق الوطني.
معظم المعارك الحاسمة في سياق مهمة التحالف تخضع لنوع غريب من الحسابات تبدأ باختيار نوعية المقاتلين وانتماءاتهم المناطقية والسياسية، وتنتهي بالتوافق مع المزاج الدولي وأولوياته المتصلة بمكافحة الإرهاب.
ومعركة الحديدة هي إحدى المعارك التي يحضرها هذا النوع من الحسابات المعقدة، التي ترتبط بشكل خاص بدولة
الإمارات، انطلاقا من موقعها قائدة لمعركة تحرير الساحل الغربي.
يبدو أن أولوية الإمارات لا تقتصر فقط على ضرورة خوض معركة تحرير المدينة ومينائها، بل بالوضع الذي ستؤول إليه الأمور في الحديدة بعد التحرير.
وهذا يتضح من خلال الأولوية العسكرية التي جرى تأهيلها للمشاركة في المعركة، فعلى الرغم من أنها تنتمي إلى محافظة الحديدة، إلا أن تحرير المحافظة ليس إلا الجزء الظاهر من مهمتها الأكثر تعقيدا، التي قد تعيد إنتاج مشهد جديد للصراع في محافظة الحديدة المسالمة، خصوصا إذا علمنا أنه قد جرى الاعتماد بشكل كبير جدا على الحراك التهامي الذي يهيمن عليه قادة محسوبون على المخلوع صالح ونجله وكبار مساعديه الذين ينتمون لمحافظة الحديدة.
جميع اليمنيين سوف يصفقون بالتأكيد للنتيجة المتوقعة لهذه المعركة وهي الانتصار والتحرير، ولكنهم يتمنون قبل ذلك أن تضطلع المملكة العربية السعودية بدور جوهري فيها، لأن اليمنيين يريدون أن يقطفوا ثمرة الحرية والانتصار، في جو من الامتنان والتقدير لجميع بلدان التحالف العربي وفي المقدمة السعودية والإمارات.
ولا يريدون في المقابل أن يشربوا الكأس المر الذي يتجرعونه في عدن التي تحولت إلى "كانتونات" عسكرية مناطقية، وإلى ساحة صراع لم يعد يحتمله اليمنيون.