تشكل قضية
التمويل تحديا كبيرا لغالب فصائل
الثورة والمقاومة في عالمنا العربي، خاصة حينما تجد نفسها عاجزة عن تمويل نشاطاتها وأعمالها تمويلا ذاتيا، ما يضطرها إلى فتح قنوات اتصال وتواصل مع قوى ودول خارجية لتأمين التمويل المطلوب بحسب مراقبين.
ويزداد ثقل ذلك التحدي في أوساط
الفصائل المسلحة، كما هو حال فصائل الثورة السورية، التي تحتاج إلى دعم كبير لتوفير متطلبات المواجهة العسكرية في معاركها المفتوحة مع النظام وحلفائه، ما يعني اضطرار أغلبها إلى تأمين الدعم المالي والعسكري من جهات ودول متعددة.
ووفقا لباحثين سياسيين فإن الدول ليست جمعيات خيرية، ولا تبذل أموالها لتلك الفصائل بصفة مجانية، بل تستخدمها كأداة لإخضاعها وتطويعها لتنفيذ أجنداتها، وتحقيق مصالحها في مناطق الصراعات المشتعلة.
وأمام هذه المعادلة الصعبة والمعقدة تثار تساؤلات حول مدى قدرة فصائل الثورة والمقاومة على إنجاز مهامها بعيدا عن الدعم الخارجي أم أنها مضطرة لذلك ولا يمكنها الاستغناء عنه بحال؟ وفي حال حصولها على الدعم فما هي الحدود التي يسمح بها لتلك الفصائل بالتعاون مع الدول الخارجية من غير أن تفقد استقلاليتها بالكلية؟.
التمويل الذاتي هل يكفي؟
وكانت الثورة السورية في بداياتها، تعتمد اعتمادا كليا على مصادرها الذاتية في تمويل نشاطاتها، وبقيت كذلك في بداية عملياتها العسكرية إلى حين فرض النظام "عسكرة" الثورة، ولجأ السوريون لحمل السلاح بعد استشراس النظام في قمع الثورة.
ووفقا لمراقبين عايشوا الثورة من بداياتها، فإن الفصائل حينما كانت تعتمد على تمويلها الذاتي حققت انتصارات مشهودة، وكان لها حضورها المؤثر والفاعل على الساحة، لكن حينما تقاطرت الأموال عليها من هنا وهناك، وهي بالتأكيد أموال سياسية موجهة، انعكس ذلك سلبيا على مسارات الثورة وإنجازاتها.
لكن هل كان بإمكان فصائل الثورة السورية الاستمرار في اعتمادها على مصادر تمويلها الذاتي على شحها ومحدوديتها، درءا لمفاسد التدخل في سياساتها، والتحكم في مساراتها من قبل الدول الداعمة والممولة؟.
الباحث الشرعي السوري، عبد الرزاق مهدي قال إنه " كان بإمكان فصائل الثورة السورية الاستمرار في القتال حتى إسقاط النظام بالاستغناء عن الخارج، بالاعتماد على المقدرات التي أعطانا إياها ربنا، ومن ضمنها الغنائم" على حد قوله.
واستشهد مهدي في حديثه لـ"
عربي21" بالحديث النبوي "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي"، ما يعني أن "أن معظم رزقي يأتي من الغنائم"، منوها بأن الثوار غنموا من النظام ومن الميليشيات الشيعية أسلحة وذخائر كثيرة".
وأضاف مهدي "إضافة إلى أن أرض الشام معطاءة وغنية بالنفط والزراعة مع بعض الصناعات، وكذلك الشعب السوري الذي يُعرف بكرمه وجوده ولا يقصر في دعم الثوار".
وتابع "فكان من الممكن الاستغناء عن الدعم الخارجي منذ البداية لكن الفصائل اعتادت على تلقي الدعم والعطايا، فصار من الصعب عليها الاستغناء عن ذلك، مع عدم اهتمامها بالتنمية في الزراعة أو الصناعة أو التجارة، واعتيادها على أنماط حياتية يصعب معها الاستغناء عن الدعم الخارجي".
وجوابا عن سؤال: ما هي الحدود التي يسمح بها لتلك الفصائل بالتعاون مع الدول الخارجية وتلقي الدعم منها، قال مهدي "الحدود التي يسمح بها للفصائل التعاون مع الدول الخارجية مرهونة بأمرين: الأول مصلحة الشعب، أي المصلحة العامة، وليست مصلحة "الفصيل"، والثاني: أن لا تقع مخالفات شرعية في ذلك التعاون".
لا تمويل إلا بتوافقات سياسية وأمنية
من جانبه رأى الناشط السياسي الأردني، والقيادي في تيار الأمة، نعيم التلاوي أن "دروس التجربة العملية تقطع بأن الدول لا تقدم تمويلا إلا بشروط محددة، تقع ضمن أجنداتها السياسية، وقلما تجد دولة تقدم دعما أو تمويلا هكذا بدون شروط".
وأكدّ أنه من خلال تجربته في العمل الثوري الفلسطيني، واقترابه من فصائل الثورة السورية، لمس ذلك عن قرب، ووقف على حالات أكيدة وموثقة، وأن الدعم والتمويل يكون بحسب حجم التنظيم وقوته على الأرض، ومرهون بما يستطيع تحقيقه وإنجازه.
وأوضح التلاوي لـ"
عربي21" أن التمويل هو أداة الأنظمة في إخضاع الفصائل الثورية لسياساتها وأجنداتها، فقد تجد تنظيمات وفصائل صغيرة تخضع لإملاءات الدول الممولة بشكل تام، على عكس التنظيمات والفصائل الكبرى فإنها تعمل ضمن أطر التنسيق والتوافقات السياسية والأمنية المشتركة لكلا الطرفين.
وعن رصده لتجربة فصائل الثورة السورية قال التلاوي "لقد فقدت غالب تلك الفصائل استقلالية سياساتها وقراراتها بعد تلقيها الدعم والتمويل من دول مختلفة، وصارت قياداتها غير قادرة على اتخاذ القرارات المستقلة".
وأشاد التلاوي بما كانت عليه فصائل الثورة السورية في بدايات الثورة، حينما كانت تعتمد على مصادرها الذاتية في التمويل، فحققت انتصارات طيبة ومباركة، وكانت أكثر نشاطا وعطاء" على حد وصفه.
وأشار التلاوي إلى أن الجهات الممولة غالبا ما تتمكن من اختراق تلك الفصائل والتنظيمات، ومن ثم تقوم بتسييرها وفق السياسات التي تريدها، وهذا هو الواقع المشاهد، وعليه أدلة وشواهد كثيرة".
في السياق ذاته أرجع الباحث السوري المتخصص في الفقه الاجتماعي، الدكتور إبراهيم سلقيني عجز فصائل الثورة السورية عن إقامة التوازن بين التعاون مع الدول والمحافظة على استقلالية سياساتها وقرارتها إلى تشرذم تلك الفصائل، واصفا المتشرذم بأنه "لا رأي له ولا قرار".
وردا على سؤال: هل يمكن لفصائل الثورة الاحتفاظ باستقلالية سياساتها ومواقفها من الخضوع لإملاءات الداعمين والممولين؟ قال سلقيني "في السياسة نعمل على عدة محاور: أولا: مراعاة فقه الموازنات، ثانيا: تنويع جهات الدعم حتى لا تكون مرهونا لطرف واحد".
وتابع في حديثه لـ"
عربي21" أن من الضروري "ترك مخزون احتياطي لحالات الطوارئ إذا اضطررت للخروج عن طوع إحدى الجهات"، لافتا إلى أهمية ترتيب الأولويات السياسية تبعا لأهميتها.
ورأى سلقيني أهمية "عدم إعلان الفصائل عن أهدافها وأولوياتها إلا بعد امتلاك القوة على تحقيقها، بل ربما بعد امتلاكها بالفعل" في إشارة منه إلى إمكانية التحرر من ضغوط الممولين وإملاءاتهم.
واستشهد الباحث في الفقه الاجتماعي، بما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة حينما حالف القبائل داخل المدينة وحولها لضمان الاستقرار، ثم نزع عهده مع من أخل بها شيئا فشيئا عندما امتلك القوة".
يشار في هذا المقام إلى شح الدراسات والأبحاث الفقهية التي تحدد للحركات والفصائل الثورية والجهادية مساحات التعاون والتنسيق المسموح بها مع الدول المختلفة، واختلاف مستويات ذلك التعاون تبعا لهوية تلك الدول وتوجهاتها، واعتبار تقاطع المصالح بين الحركات والدول، والالتقاء على أهداف وغايات متقاربة، في مواجهة أعداء مشتركين.