العجرفة الأوروبية تجاه تركيا ليست وليدة اليوم، فمن يقرأ التاريخ ويتأمل الأحداث يكتشف الجذور التاريخية العميقة للحقد الأوروبي على تركيا وحضارتها، ولعل أهم محطة تشكلت فيها ثقافة الحقد والعنصرية الأوروبية تجاه كل ما يتعلق بتركيا ارتبطت بفتح القسطنطينية" إسطنبول حالياً" عام 1453م. فالعقل الأوروبي لم يفق بعد من صدمة فتح القسطنطينية ولهذا أعادت قوات الحلفاء في الحرب العالمية احتلالها لإسطنبول ولم تنسحب منها إلا بعد إعلان أتاتورك تفكيك الخلافة العثمانية.
ومع أن تركيا انسلخت في الحقبة الأتاتوركية العلمانية المتطرفة من هويتها الإسلامية وحاولت التقرب من أوروبا بكل ما تستطيع على أمل إدماجها في الاتحاد الأوروبي غير أن الذاكرة الأوروبية الغارقة في الأحقاد التاريخية لم تغفر لتركيا ولم تقبل عضويتها في الاتحاد الأوروبي. وظلت الدول الأوربية تماطل في المفاوضات منذ خمسين عاماً وحتى الآن وهذه المماطلة تكشف أكاذيب تصريحات رئيس الوزارء الهولندي (مارك روتي) العنصرية حين وجه خطابه للأتراك وقال لهم "إن حكومتكم تقوم بخداعكم بجعلكم تصدقون أنكم ستكونون عضوا في الاتحاد الأوروبي يوما، انسوا هذا، أنتم لستم ولن تكونوا أوروبيين أبدا... دولة إسلامية مثل تركيا لا يمكن أن تكون جزءا من أوروبا، تركيا صوتت لأردوغان الإسلامي الخطِر الذي يحمل راية الإسلام، ونحن لا نريد إسلاما أكثر بل نريد أن نقلل منه". فواقع الأمر يؤكد أن العنصرية الأوروبية لا تريد أن ترى إسلاماً لا قليلا ولا كثيرا في تركيا. وحتى العلمانية التركية المتطرفة فشلت في الحصول على الترحيب الأوروبي واقتلاع ثقافة العنصرية الأوروبية تجاه الأتراك وكأن المطلوب من الأتراك ليس فقط التجرد من هويتهم الدينية بل اعتناق المسيحية الأوروبية وصدق الله القائل (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). وكان الأمين العام لحلف الناتو أندرس فوغ راسموسن قد اعترف في تصريحات صحفية سابقة بأن أوروبا تعامل تركيا بشكل ظالم لهويتها المسلمة، وأنها لا تريد أن تلعب أنقرة دوراً أكبر في العالم. وانتقد "راسموسن" استبعاد تركيا من الوكالة الأوروبية للدفاع"، وهي منظمة أبحاث وتنمية عسكرية".
ولهذا فليس غريباً أن يتصاعد الحقد على تركيا وتزيد وتيرته كلما تقدمت تركيا بخطوات متسارعة نحو الديمقراطية والتنمية ومن المفارقات المريبة أن تستقبل بعض الدول الأوروبية قيادات عسكرية انقلابية تريد الوصول إلى السلطة بالقوة وترفض استقبال قيادات مدنية ديمقراطية وصلت إلى الحكم بصناديق الاقتراع . ومن المثير للسخرية التعلل بعرقلة فعاليات المؤيدة للتعديلات الدستورية لكونها غير ديمقراطية، فمثل هذا التعلل مجرد استخفاف بعقول البسطاء فالجميع يعرف أن النظام الرئاسي المراد تحقيقه في تركيا هو نفس النظام الموجود في الديمقراطية الأمريكية و المخاوف الأوروبية الحقيقية من التعديلات إنما تكمن في تحييد التعديلات لدور الجيش من التدخل في السياسة وإلغاء محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم العسكرية الإدارية العليا، وتحويل جميع القضايا العسكرية إلى محاكم مدنية استئنافية. فهل في ذلك ما يتعارض مع الديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان؟.
والعنجهية الأوروبية تجاه تركيا تكشف أيضاً أسباب المداهنة الأوروبية لإيران والمساندة العملية للتمدد الإيراني في المنطقة المنافس الأقوى للمشروع التركي وهنا تأتي أهمية مساندة دول الخليج لتركيا أمام حملات الاستهداف الأوروبية، فالمستفيد الحقيقي من هذه الحملات التي تتدخل بطريقة سافرة في الشؤون التركية الداخلية هو المشروع الإيراني الذي يعد العدة للسيطرة على الخليج وتضييق الخناق عليه وإشعال الحروب في المنطقة ولإيران اليوم امتداداتها الخطيرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومن هنا فإن تعزيز التحالف مع تركيا في مواجهة هذا التمدد يجب أن يكون في رأس أولويات الأمن القومي الخليجي والعربي.
ومع تصاعد الفاشية الشعوبية ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا التي تحولت إلى ممارسة رسمية عنجهية تستهدف وزراء دول إسلامية وتتدخل في الشؤون الداخلية لدولة ديمقراطية بطريقة استفزازية فإن ما يجب التنويه إليه أن هذا التصعيد الفاشي العنجهي لا يستهدف تركيا فقط فالحريق الذي يشتعل في بيت جارك غداً يصل إلى دارك ومن يقتل الثور الأحمر غداً سيقتل الأسود والأبيض وما لم تقف دول الخليج والدول العربية والإسلامية وقفة جادة مع تركيا ستجد نفسها وجهاً لوجه أمام تغول الاستعمار الغربي الجديد وأدواته الإيرانية. وحينها ستكون كفتنا هي الأضعف كما حدث بعد تفكيك الدولة العثمانية بمشاركة الدولة الصفوية في إيران وبعض الأمراء العرب الذين وجدوا أنفسهم بعد ذلك في قبضة التبعية للاستعمار الغربي وأمام الخنجر الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في جسد الأمة العربية والإسلامية.