رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلما / صرتُ في غيرِه بكيتُ عليه
وما مر يوم أرتجي فيه راحة / فأخبره إلا بكيت على أمسي
فما الناس بالناس الذين عهدتهم / ولا الدار بالدار التي كنت أعهد
كان من التقاليد السياسية الثابتة في السودان، عند خروج مظاهرات تشيد أو تندد بهذا وذاك، وهذه وتلك، منذ فجر الاستقلال، أن يمر المتظاهرون بمبنى السفارة الأمريكية في شارع الجمهورية في الخرطوم، ثم يهتفوا: داون، داون يو. إس. إيه. (تسقط، تسقط الولايات المتحدة الأمريكية)، وكان بعض العامة يهتفون داون، داون، يونس إيه.
كان ذلك دليل انتماء السودان إلى "أمة الأمجاد والماضي العريق"، التي ظلت على مر العقود كالجمل لا يرى اعوجاج رقبته، ويعاير الآخرين بالـ"عوج"، فأمريكا أس أدوائها وسبب قعودها، وتفشي الفيروس الثلاثي: الجهل والفقر والمرض في أوصالها، إلى درجة أن مظاهرات شعبية حاشدة خرجت في الخرطوم، استنكارا للغزو السوفييتي لأفغانستان في كانون الأول/ ديسمبر 1979، وجريا وراء العادة، مرت الحشود أمام السفارة الأمريكية وهتفت: داون داون يو إس إيه.
الشاهد، أن الإنسان العربي يتم إرضاعه كره واشنطن في المهد، ثم يستمر الإرضاع إلى اللحد، وبهذا يصير كل رئيس لأمريكا زفت في زفت في نظره، بينما معظم شعوب العالم السفلي الأخرى تمارس الانتقائية في كره الرؤساء الأمريكان.
أعود إلى الأقوال/ أبيات الشعر، التي استهللت بها مقالي، وأقول إنني استخدمتها توطئة للإعلان ملء الأنف والأذن والحنجرة، بأنني جد حزين لانتهاء ولاية باراك حسين
أوباما، ليس لأن دونالد ترامب خلفه، وصار يلعننا ويلعن اللي خلفونا، ولكن لأنه كان رئيسا أمريكيا استثنائيا.
قلت رئيسا أمريكيا استثنائيا، للإشارة لأمر نغفله عندما نحكم على رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين، وهو أنه يتم انتخابهم ليعملوا ما فيه مصلحة بلدهم، على المستويين الداخلي والخارجي، والعرب يكرهون رؤساء أمريكا من طرف، لأنهم يساندون إسرائيل في المَكْره والمَكْره، ولكن أولئك الرؤساء مقتنعون بأن إسرائيل هي أوثق حليف لبلادهم في الشرق الأوسط، الذي ابتلاه الله بحكام دون الوسط، عاجزين عن الحل والربط، سلموا رقاب بلدانهم لأمريكا بلا مقابل.
كانت إسرائيل الحصن المنيع ضد الشيوعية على مدى أكثر من أربعة عقود، عندما كانت مناهضة الشيوعية هي محور السياسة الأمريكية الخارجية، بينما شهدت معظم دول الشرق الأوسط في تلك الفترة، انقلابات متعاقبة يعلن مرتكبوها أنهم اشتراكيون، فقط من باب تبرير الانقلابيين لاستيلائهم على السلطة هنا وهناك، منتزعين إياها من حكومات كانت تمارس سياسة رزق اليوم باليوم، كما يفعل التاجر البليد، وتسير بالأوطان على طريق التطور الرأسمالي.
أوباما هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم يزج بلاده في حرب، بل أخرج جنوده من المستنقع
العراقي، المشبع بالفطريات السامة التي زرعها سلفه جورج بوش وحليفه العراقي نوري المالكي.
وسحب أوباما 90 في المئة من الجنود الأمريكان من أفغانستان، فما كان من الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي، إلا أن لعن خاشه، وشتم أولياء نعمته الأمريكان، واتهمهم بأنهم خذلوه.
وما خذله سوى جهله بأمور الحكم الذي وصل إليه، وكل مؤهله أنه كان يجيد الإنجليزية، ما يساعده على فهم التوجيهات والتعليمات الواردة من الباب العالي في واشنطن.
ومع هذا أخذ العرب على أوباما أنه رفض وضع قوات أمريكية على أرض ليبيا، وأنه رفض مقارعة نظام بشار الأسد في سوريا عسكريا، ولو فعلها في الحالتين لكان العرب اليوم يكيلون السباب للأمريكان الأنجاس المناكيد. ثم صاحوا: وجدناها، واشنطن طنشت الجرائم التي يرتكبها النظام الأسدي، لأنها كانت تريد خلق تربة ملائمة لقيام داعش.
يا عرب.. كان أوباما رئيسا شديد الاستقامة، ولا يستحق منكم عتابا أو ملامة، فقد آثر لبلاده السلامة، ولم يورطها كما فعل بوش في طامة، ثم أنه ليس مسؤولا عنكم، فابحثوا عن شماعة غيره، وانظروا كيف بلدانكم تُحكَم، وكفوا عن النواح واللطم، فلات ساعة مندم.
وعودا إلى عنوان مقالي هذا، أقول إنه لو كان قائله عنترة بن شداد، متغزلا بالذات مذكّرا بني عبس أنهم بلا وجوده في ميدان المعركة "ولا شيء"، وجعل سواد لون بشرته مشعا ينير ظلمات ديار بني عبس (وكان منهم بالانتساب فقط وليس حتى بالتجنس)، فلا تثريب علي في استعارة كلماته تلك للتذكير بأني على الأقل أحس بغياب بدر من سماء السياسة الدولية، برحيل أوباما الأسود من البيت الأبيض.