قضايا وآراء

حسن البنا والذمة المالية

1300x600
تمر هذه الأيام ذكرى استشهاد حسن البنا رحمه الله، هذا الإمام الذي أسس صرحا كبيرا ملأ الدنيا وشغل الناس، ولا ينبغي أن نحتفل بذكرى الرجل بذكر مآثره، بعيدا عما يدور في جماعته، وإن رحل عنها وتركها لمن بعده منذ ثمانية وستين عاما، فليس غريبا عن الإخوان ولا دوائرها ما يدور الآن في الإعلام من حديث عن أموال الجماعة وإدارة هذه الأموال، سواء صح ما ذكر عنها كله، أو صحت نسبة منه، ولم تصح أخرى، فكيف كان يتعامل حسن البنا مع ملف المال والذمة المالية؟ هذا ما نتناوله في هذا المقال في ذكرى استشهاد الرجل، لعل من هم في مكانه أن يتأسوا به.

كان حسن البنا يعلم أن أخطر ملفين يتم اصطياد الداعية أو الرمز بهما هما: المال والنساء، ولذا قال عنه خصومه: لقد نجا منهما، وكان حريصا على تجنيب جماعته الوقوع في هذين الملفين، والبعد عنهما، فقرر أن تكون ميزانية الإخوان من جيوب الإخوان، مخافة أن يتهم يوما بالتمويل من هذا أو ذاك، ولكي يكون قراره مستقلا.

أما إدارته للمال فكانت تدور في إطار مخافة الله، وحق المحتاج لهذا المال، بغض النظر عن انتمائه، أو صدامه مع جماعته، ولم يكن يصنف الناس، فهذا مؤيد لي داخل التنظيم، وهذا معارض لي، وهذا خصم للجماعة فيحرم، بل ما ثبت عنه في هذا الملف أمر مبهر حقيقة، فعندما خرجت مجموعة من الشباب اتهمت حسن البنا بخذلان مبدأ وفريضة الجهاد، وكان وقتها هناك محتل إنجليزي لمصر، احترم البنا وجهة نظرهم، ولم يتهمهم بالجنون، أو التهور، أو زايد عليهم بين الناس، فخرجوا من الإخوان بانشقاق معلوم تاريخيا، وأطلقوا على أنفسهم: (جماعة شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)، وكان منهم مفكر كبير فيما بعد، وهو الدكتور علي سامي النشار صاحب موسوعة: (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، وقامت هذه الجماعة بطباعة دفاتر تبرعات، لتجمع المال ليتأسس كيانها ويعمل، فوجئ الجميع أن الإيصال رقم (1) كان باسم حسن البنا.

وعندما قام الرئيس الراحل محمد أنور السادات في مرحلة شبابه، مع مجموعة من الشباب باغتيال أمين عثمان المعروف بولائه للمحتل الإنجليزي، ففصل السادات من عمله بالجيش المصري، وسجن، ثم هرب فترة طويلة، فوجئت أسرة السادات بمبلغ مالي كل شهر يصلها على يد حسن البنا، أو أحد من الإخوان من طرفه، بشكل ثابت حتى تحسن وضعه وعاد لعمله، وقد ذكر ذلك بالتفصيل السادات في كتابه (البحث عن الذات)، وذكرته جيهان السادات في حوار منذ سنوات. ونفس الأمر قام به المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف أحد قيادات الإخوان والجيش المصري، فقد قام ببيع ذهب زوجته وأعطاه مساعدة للسادات في هذه الفترة، فقد كان حسن البنا يغرس في نفوس الإخوان هذا المعنى المهم: أن مال الإخوان هو خير ساقه الله على أيديهم، ينتفع به القريب والبعيد، المؤيد والمعارض، المحب والكاره لهم، لأنهم يدورون تحت قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور: 33، وقوله تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) الحديد: 7، فمن فعل غير ذلك فوصفه بأنه من دعاة الإخوان يحتاج إلى مراجعة.

وضرب حسن البنا أنموذجا آخر مهما، في المحاسبة على المال، والذمة المالية، وذلك عندما أرسل أحد الإخوان المسلمين لمجلة الإخوان سؤالا معلنا كان نصه: يا شيخ حسن نعلم أنك لا تتقاضى راتبا على عملك الدعوي، ولكننا نراك متأنقا في ثيابك، ومهتما بمظهرك، فمن أين لك هذا؟ وكان البنا مسافرا، فكتبت المجلة السؤال، وقالت: نعد السائل، بأن يجيب الأستاذ البنا فور عودته من السفر، وعاد وكتب هذه الإجابة علنا:

أخي الكريم، تسألني من أين أنفق؟ كان صلى الله عليه وسلم ينفق من مال خديجة، وأنا أنفق من مال أخي خديجة (يقصد بذلك أصهاره)، ولي أخوان يقرضانني، فأمامك أحد أمرين، إما أن تنضم للأخوين فتكون الثالث، وبذلك يخف الأمر عليهما، وإما أن تسدد لهما الدين، وأكون مدينا لرجل واحد هو أنت، فإن عجزت عن الأمرين، فأمامك أمر ثالث أن تدعو الله لي أن يعينني على سداد ديني. وقد اتخذت خطة عملية لإنهاء هذا الدين، سوف أنشيء مجلة علمية أسميتها (الشهاب) أعالج بها أمرين مهمين، الأول: الضعف العلمي الذي بدأ يتسرب في صفوف الجماعة، والثاني: أن أسدد من بعض ريع المجلة، ما علي من ديون. وتقبل مني تحياتي ودعواتي، أخوك: حسن البنا. هكذا بكل بساطة قام بالإجابة دون تشنج، أو اتهام السائل بسوء الأدب، فكيف يأمره الداعية بالنزاهة المالية، ثم يغضب عندما يسأله أحدهم: من أين لك هذا؟!

وهذا ملف شائك في جماعة الإخوان، يحتاج بلا شك إلى نقاش وفتح في إطار مؤسسي شفاف، لا في إطار الطبطبة برسائل يراد بها إغلاق جروح لم تتطهر بعد، وهو ما ينذر بصديد تحتها، ينفجر في وقت لا يصلح له دواء، بغية الوصول إلى عمل مؤسسي ينهض بحال الجماعة التي يعلق الناس عليها آمالا كبيرة في  الإصلاح.

Essamt74@hotmail.com