يصوَّر اليوم الرئيس الروسي في أدبيات
المقاومة والممانعة وسرديات القومجيين العرب من نخب الاستبداد على أنه الزعيم الجديد القادم من الشرق والقادر على دحر مخطط الغرب الإمبريالي المتمدد في المنطقة العربية.
صحيح أن الرئيس الروسي وريث جهاز المخابرات نجح في نحت صورة الرجل القوي في الواجهة ونجح كذلك في تسويق نفسه كرجل صلب قادر على قلب الموازين وتحريك المعادلات. صحيح كذلك أن الرئيس الروسي نجح في جعل
روسيا تبدو كدولة قوية مقارنة بالاتحاد السوفياتي في أيامه الأخيرة وذلك عبر التحرك على أكثر من واجهة في مواجهة أوروبا العجوز أو أمريكا المتراجعة.
هذا الصعود المدروس استخباراتيا للنجم الروسي تزامن مع أحداث جسيمة في المنطقة العربية خاصة والمشرقية عموما وأهم هذه الأحداث ثورات الشعوب التي كسرت القيد القديم ونجحت في الدوس على رؤوس أنظمة كنا نحسبها إلى وقت قريب عصية على السقوط.
من جهة أخرى تتميز نخب الاستبداد العربية بخصائص أساسية تتجلى في صورة مركبات نوعية منها:
مركّب الهزيمة: وهو أخطر المركبات على الإطلاق حيث استبطنت نخب العرب السياسية خاصة عقدة الهزيمة وروّجت لها وذكّتها حتى تحوّل هذا المرّكب إلى عنصر وظيفي فاعل لا يستحضر من دروس التاريخ غير النكبة والنكسة والانكسار... بشكل حجب عن الأمة تاريخا حافلا بالانتصارات والبطولات.
عنصر الهزيمة هو الذي عليه ستتأسس كل مدارات الوعي الجمعي للنخب العربية وخطابها الأيديولوجي والسياسي والفكري بشكل عام.
مركّب الزعيم: صورة الزعيم مكوّن مركزي في المخيال الفكري والسلوكي للنخب العربية وخاصة منها النخب القومجية التي جعلت من هذه الصورة قاعدة صلبة لسلوك الاستبداد وتأبيد القمع الوحشي الذي يمارسه الفرد الحاكم. الزعيم الخالد والقائد الفذ والبطل المغوار وملك ملوك إفريقيا والمجاهد الأكبر ... كلها تسميات أثثت الخطاب السياسي العربي طيلة عقود طويلة لتنكشف بعد ذلك عن واحدة من أشرس الأنظمة الاستبدادية والدموية في التاريخ الحديث.
مركب الاستئصال: تكاد تنفرد النخب العربية بنزعتها الاستئصالية الموغلة في الاستئصال خاصة في الجمهوريات العسكرية حيث استبدت النخب القومية واليسارية بالمشهد السياسي والفكري وأمعنت في تجفيف منابع الهوية وفي محاربة كل الجذور القيمية والحضارية لأمتها رغم كل الشعارات البراقة التي رفعتاه طيلة عقود من الزمان. إنكار الانتماء عند أغلب النخب العربية هو الذي تجلى في بحثها المحموم والدائم عن صورة الزعيم بسبب إحساسها القوي باليتم وبخطأ الانتماء.
هللت نخب العرب لكل النظريات الغربية والأجنبية في الأدب والسياسة واللغة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا ... وداست على موروثها الحضاري العميق والضارب بعروقه في تربته العربية المسلمة. فسادت النظريات الشيوعية واللبرالية والقومية التي أثثت الحياة الفكرية والسياسية العربية لعقود طويلة لتورث الأمة كل أشكال العجز والوهن وتحول الأوطان إلى خراب لا ينتهي.
اليوم ومع تحالف الاحتلال الروسي مع جرائم النظام الطائفي في دمشق تحول الرئيس
بوتين إلى أيقونة جديدة عند الكثير من النخب العربية المعادية لثورات الشعوب ولحركات التحرر التي تطالب بالخروج من ربقة الاستبداد. بوتين اليوم و بعد كل جرائمه في
سوريا وبعد كل الدمار الذي ألحقه بالمدن السورية تخريبا ودمارا وقتلا وتشريدا صار عند نخب العار من القومجيين منقذا وحارسا ومدافعا عن حياض العروبة.
الثابت الأكيد هو أنّ مرض الحنين إلى صورة الزعيم و إلى وظيفته ساهم بشكل كبير جدا في استحضار صورة بوتين اليوم كحام و منقذ للسوريا العروبة التي لم يبق من عروبتها غير فرق الموت الإيرانية وهي تحرس أسوار القصر الرئاسي في دمشق. عروبة سوريا حذفها الوكيل الاستعماري الروسي من الدستور الجديد الذي خطّه بالوكالة لصالح النظام الجديد في دمشق.
المحير في الأمر هو، كيف يمكن لنخب رفعت لواء العربية والعروبة أن تكون الأكثر عداء للعرب والمسلمين؟ كيف يمكن للنخب العربية أن ترحب بكل الغزاة من الفرس والروس ضد إخوانهم من العرب والمسلمين؟
بوتين لا يختلف كثيرا عن ستالين الذي قتل من الجمهوريات السوفياتية السابقة أكثر من خمسين مليون نسمة خلال فترة التطهير العرقي التي خاضتها روسيا ضد جيرانها من القوميات الأخرى. بوتين ارتكب في سوريا أبشع الجرائم عبر طائراته التي تمطر يوميا المدن السورية بآلاف القذائف والصواريخ والبراميل والأسلحة المحرمة دوليا. فلم تبق في بلاد الشام عائلة واحدة لم تنكب في أحد أفرادها فكانت جرائم الروس والفرس وحزب الله الإيراني مبثوثة في كل بيت وفي كل حارة من حارات الشام.
من فضائل ثورات الربيع العربي أن أسقطت وإلى الأبد كثيرا من المفاهيم والتصورات التي كانت تغطي زيف الأطروحات والرؤى والنظريات في المنطقة العربية. سقوط صورة الزعيم وموت الزعامة نفسها هو واحد من أهم مكاسب الوعي العربي الناشئ والخارج للتو من بين دخان المعارك التي لا تزال دائرة على الأرض العربية بين نزوع إلى الحرية لا ينطفئ وبين أغلال الاستبداد وزبانيته من نخب العار العربية.