يبدو أننا مضطرون بين الحين والآخر لإعادة الحديث حول المصطلح سيء السمعة الذي نال من السخرية والتهكم الكثير، لم تكن سخرية فقط ولكن كانت هناك أيضا مجموعة من الإجراءات العملية التي أكدت الكثير من الشكوك القديمة؛ بل وأوضحت نقاط غامضة في مسيرة الأعوام الستة منذ
ثورة يناير.
بداية... تلعب اللغة دورا هاما في أفكارنا؛ فاللغة ليست فقط وسيلة للتواصل ولكنها وعاء الأفكار وفي تعبير لصديق عزيز هي يد العقل، وبالتالي فأي مفردة تعني عند استخدامها ليس فقط ما يريده قائلها ولكن تحمل أيضا المعاني السابقة التي يختزنها العقل، ومصطلح الاصطفاف المجرد من المشاعر السلبية التي حملها في خلال الأعوام الثلاث السابقة يبدو جيدا وملهما كلفظ مجرد منفصل عن الأحداث؛ فمن منا لا يريد التوحد والتعاون والوقوف صفا واحدا في مواجهة الظلم والفساد والحكم العسكري، نتذكر سويا أن هذا هو المعني المباشر الذي تحمله اللغة معها فور استخدام اللفظ، ولكن ليس بالضرورة أن كل من يستخدمه يريد ذلك؛ أو على الأقل يريد البعض استخدام المعنى اللفظي لصناعة صورة ذهنية للمتلقي من المعنى المرتبط بكلمة الاصطفاف ويريد بها حالة أخرى أو معنى مغاير. وتعلمنا في العمل العام أن تسعة أعشار جبل الجليد لا نراه تحت مياه السياسة الزرقاء.
ولتوضيح الصورة أكثر سأحاول قراءة مفردة الاصطفاف خلال عدة مراحل قبل وبعد يوليو 2013 ونرى ما هو حجم الانحراف أو بمعنى أدق التلاعب بالمصطلح لأغراض أخرى.
ففي
مصر تردد معنى هذا المصطلح قبل الانقلاب العسكري وكان الهدف منه كما أرى هو استمرار إبعاد القوى الشعبية عن السلطة، فلو حاولنا قراءة المجتمع السياسي المصري منذ زمن بعيد سنجد الدولة بمؤسساتها ولها امتداد وعمق بالمجتمع المصري بكافة طبقاته ولها من الوسائل ما يمكنها التأثير عليه وضبطه؛ و سنجد "نخب" تنتمي لأيديولوجيات متباينة ليس لها رصيد في الشارع المصري ولكن صوتهم عال جدا لأنهم يمتلكون وسائل توجيه العقول من إعلام وكافة وسائل تشكيل العقل من مسرح وسينما وقصور ثقافة و غيرها. ونجد تيارت شعبية لها عمق كبير في طبقات المجتمع واستطاعت التعبير بشكل ما عن هذا المجتمع بتنوعه وهي القوى الإسلامية، وصنعت تلك الطبقات الشعبية نخبها؛ وبالتأكيد وكحقيقة وجودية توجد أخطاء لكل التيارات والبشر ولكن حتى لا يزايد أحد على هذا القول.
وكل المحاولات "الاصطفافية" التي قامت بها كتلة الدولة أو كتلة النخب خالية القواعد الشعبية قبل الانقلاب هي لمحاولة استعادة السلطة في مصر و إبعاد القوي الشعبية بكل امتداداتها خارج منظومة السلطة وبقاء ما تسمى النخب بإدارة السلطة تحت رعاية الدولة، ولنعلم أن الدولة ممثلة بقائد الانقلاب العسكري تدعو أيضا إلى اصطفاف الجميع بجانبها.
وهناك فارق بين الامتداد الطولي للدولة بالمجتمع والامتداد المنتمي للتيار الإسلامي، فالدولة تستخدم القوى البشرية التابعة لها من موظفين ومسؤولي الدولة بكل مستوياتها لحماية سيطرة كتلة حاكمة على مفاصل السلطة، بينما تعمل الكتلة الأخرى على تمكين المجتمع من كل مقدراته. وبالتأكيد أيضا أن هناك نخبا داخل التيار الإسلامي منفصلة عن الامتداد المجتمعي سواء لطبيعتها الطبقية أو طموحها السلطوي.
وحاولت الدولة مع النخب استعادة هذا الوضع الممتد في تاريخ مصر الحديث بشكل بعيد عن العنف للوصول لنموذج ما قبل الانقلاب العسكري ومع عدم قدرتها على فعل ذلك؛ بدأت بعد أحداث الاتحادية في نهاية 2012 في الاستعداد للانقلاب العسكري؛ ومن المهم تقرير أن هدف الدولة منذ يناير 2011 هو استعادة السلطة بأي شكل والانقلاب العسكري هو الشكل الأكثر عنفا لاستعادتها من المجتمع.
إذا فالهدف ببساطة هو إخراج المجتمع من معادلة السلطة بشكل نهائي كما كان قبل 2011 واستمرار استخدام النخب في رسم صورة ديمقراطية لإدارة السلطة في مصر وهم مدركين تماما أن الكثير من "النخب" تحب لعب هذا الدور، وما أخل بالمعادلة بعد الانقلاب العسكري وعدم ثبات هذا المفهوم واستمرار وجود منازعة للطبقة الحاكمة هو ظهور قيادات وأفراد ترفض تماما مهما كانت النتائج هذا النموذج الخادع للسلطة التي يبدو وكأن الشعب جزءا من المعادلة ولكنه في الحقيقة عاملا منشطا لأحداث معينة ما يلبث أن يختفي ثم يتم استدعاؤه عند الحاجة إليه، وما حدث في 30 يونيه هو حالة استدعائية من هذا النمط .
ومن المهم أن نتذكر رفض كافة النخب "الاصطفاف" مع الرئيس المنتخب د.محمد مرسي قبل الانقلاب العسكري لأنه كان اصطفافا خارج المتعارف عليه تاريخيا من تلك النخب وهو التواجد مع الدولة التي تسيطر على السلطة؛ والمطلوب منها في ذلك الوقت الاصطفاف ضد استبداد الدولة ولصالح تمكين المجتمع.
أما الآن فهناك حالة من الإصرار التي لن تتوقف على استعادة معنى"الاصطفاف" الموجود في ذهن البعض وهو إعادة الاصطفاف مع الدولة المستبدة وهناك محاولات مستميتة لتحييد شخصين عن المعادلة.
الأول د.محمد مرسي وهو رمز لاستعادة المجتمع قدرته على أن يتمكن من السلطة والثاني هو رأس السلطة في النظام الانقلابي وهي موازنة عجيبة يحاول فيها البعض الوصول لأهداف ما قبل انقلاب 2013 وكأن الانقلاب العسكري لم يحدث وكأن الانقلاب ممثل في شخص واحد وضد شخص واحد، بالرغم من أن الانقلاب وما سبقه ضد تمكين المجتمع ولصالح تمكين الدولة والنظام الفسدة.
إن ترميز الأفكار في صورة أفراد شيء هام ولكن هذا لا يدعونا إلى طمس الأفكار والإبقاء على الأشخاص؛ فالدكتور مرسي رمز وزعيم أكد زعامته على مدي السنوات الأربع الماضية برفضه بداية للإذعان ورفضه بعد الانقلاب الاستسلام، وقائد عصابة السطو المسلح على السلطة في مصر أكد ريادته لكل الفساد في مصر ومعاد لكل فكرة تعيد تمكين المجتمع.
ونهاية... إن مصطلح الاصطفاف الذي يصر مروجوه على الاستمرار في إنجاحه هو استمرار لمحاولة سيطرة النخب على السلطة وللأسف بمعاونة بعض القوى التي لها امتدادات شعبية وهي بمحاولتها تلك تصر على استمرار إبعاد المجتمع عن المشاركة بشكل حقيقي وفاعل في السلطة ولا اعرف ما هو حجم الاستفادة من ذلك سواء من ناحية أفكار الثورة إذا كانت لا تزال حاضرة أو حتى على مستوى الإجراءات، وإذا كانت قضية الرهائن هي الحاضرة فعلي الأقل يمكن التفاوض على خروجهم في مقابل الاعتراف بالسلطة وتعويض الشهداء بالأموال "ويا دار ما دخلك شر".
لكن هذا الحل مرفوض كما أعتقد من السلطة الحاكمة ومن "النخب " ؛ فالنخب لا تزال تريد زعامة القوى المجتمعية والشعبية ولا تريد معاداتها ولا يمكنها الحصول على صك العودة لمواضع السلطة أو التواجد داخل مساحة السلطة إلا بوجود قوى مجتمعية مؤيدة لها، كما أن السلطة لا تريد حلا إلا بإذابة كافة الأفكار المعادية لها؛ وهذا الحل المباشر المذكور بالأعلى لا يلغي الكتلة المناهضة لهذه السلطة ويبقيها دون تفتيت؛ فهي تريد نموذجا للمجتمع وليس فقط سلطة فهي تمتلك السلطة الآن؛ ولكن الخلل في النموذج لابد أن يعاد إصلاحه، وبهذا تتوافق أهداف طرفين؛ أحدهما سلطة تريد استعادة نموذج قديم وثانيهما نخب تريد العودة إلى وضع قديم بدعم شعبي.
قد يرى البعض أن هذا شيء جيد بعد أحداث السنوات الست السابقة؛ إلا أن العكس هو الصحيح فالسنوات الست السابقة علمتنا الكثير ويبدو أننا لن ننسى ما تعلمناه.