من الواضح أن القيادة الروسية أصبحت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بتراجع السياسة الأمريكية في إدارة شؤون الشرق الأوسط وقضاياه الحساسة، وربما كان شعار الرئيس الأمريكي الجديد رونالد ترامب صحيحا عندما رفع شعار حملته الانتخابية في الأشهر الماضية: "سنعمل لإعادة أمريكا عظيمة كما كانت"، ذلك أن إدارة أوباما كانت أضعف الإدارات الأمريكية في السياسة الخارجية.
هذا ما فتح الباب واسعا للرئيس الروسي فلادمير بوتين للتحرك بحرية أكبر في القضايا الدولية، وربما التفكير بأطماع أوسع من فكرة سد الفراغ الأمريكي، بعد أن تراجعت أمريكا في العديد من القضايا في مقدمتها القضية السورية والفلسطينية والعراقية والإيرانية ومعظم قضايا الشرق الأوسط، ودليله أن التدخل الروسي لم يتوقف على الأزمة السورية، الذي بدأ بدعم جيش الأسد واستخدام حق الفيتو لأكثر من خمس مرات لمنع مجلس الأمن الدولي من إصدار قرارات تدين الأسد على قتل السوريين، ثم التحكم بسوريا عسكريا بعد إرسال الجيش والطيران الحربي الروسي إليها، وأخيرا دخولها ضامنا للاتفاقيات السياسية المحتملة بين أطراف الصراع في سوريا في أستانا.
ومن الشواهد على الانفتاح الروسي في الشرق الأوسط الأخرى دعوة القيادة الروسية الفصائل الفلسطينية إلى الاجتماع في موسكو في منتصف الشهر الحالي لبحث ملف المصالحة الفلسطينية، بعد أن فشلت المحاولات السابقة، فالروس يستعدون لاستضافة لقاء رسمي يحضره ممثلو الفصائل الفلسطينية؛ وبينها حركتا "حماس" و"فتح"، لإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية الفلسطينية، بعد توقف دام نحو سنتين ونصف سنة ، أي بعد اتفاق 23 أبريل 2014.
وقد كشفت مصادر أمريكية بان روسيا تحسن علاقاتها السياسية مع حركة طالبان الأفغانية، وتحض على التعاون معها "في مخطط يهدف إلى إضعاف" حلف شمال الأطلسي" الناتو من وجهة نظر أمريكية، وقد صرح بعض المستشارين للرئيس الروسي بوتين بأن روسيا تعمل للتقارب مع تركيا حتى إخراجها من حلف الناتو ومن الاتحاد الأوروبي أيضا، وبالنظر إلى الرؤية التي تحملها منظمة شنغهاي للأمن والتعاون الدولي، والتي يتم الترحيب بدخول تركيا إليها، فإن ذلك يظهر أن روسيا تتبنى استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، تبدأ بالتدخل بالمشاكل الدولية الشائكة، ومحاولة المساعدة والمنافسة على الدولة الأولى في العالم،
وفي حالة فشل التدخل الروسي ولو في قضية واحدة فقط، فإن ذلك سيكون بداية الفشل في الصراع مع أمريكا دوليا، وإن كانت روسيا لا تظهر ذلك، ولعل الاختبار الأكبر لروسيا هو في سوريا بعد أن توصلت مع تركيا إلى رعاية اتفاق بين اطراف الصراع في سوريا، وعرضته على مجلس الأمن قبل أيام ونال الدعم المعنوي كجهد مساعد لمباحثات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، أي أن روسيا الآن في صلب المنافسة على دور قادر على العمل السياسي المثمر في سوريا لوقف إطلاق النار أولا، ثم النجاح في عقد مؤتمر أستانا في كازاخستان في الأيام القادمة، وإلا فإنها سوف تخسر دورها كدولة كبرى في أكثر القضايا التي لها يد فاعلة فيها.
إن قرار المعارضة السورية تجميد أي محادثات متصلة بمفاوضات أستانا في ظل انتهاكات قوات الأسد والمليشيات التي تقوده هي تحد للضمانة الروسية، ليس بوصفها ضامنة لجانب قوات الأسد فقط، وإنما هو تحد للدور الدولي الذي تحاول القيادة الروسية لعبه من جديد، فإذا لم تستطع روسيا إلزام قوات الأسد ومن معها من مليشيات طائفية بوقف إطلاق النار مع وجود الجيش الروسي في سوريا، فهل ستستطيع في مكان آخر ؟
إن على روسيا أن تدرك أن أمريكا لن تمكنها من النجاح في الحل السياسي في سوريا، فأمريكا لم تعمل بجد لإنهاء الصراع كما يقول الأمريكيون أنفسهم، وهذا يسبب مزيدا من القتل والدمار في سوريا أولا، ولكنه يسبب مزيدا من الخسارة لروسيا أيضا، وأمريكا لن تجد أفضل من بشار الأسد والحكومة الإيرانية لإفشال المساعي الروسية في مباحثات كازاخستان، فدور بشار والمليشيات الإيرانية سيفشل وقف إطلاق النار على الأرض، وحتى لو عقد اجتماع أستانا، فإن الحكومة الإيرانية بالمرصاد لإفشال الجهود السياسية، وعليه، فإن روسيا أمام تحدي إفشال الجهود الإيرانية، التي تعمل لإفشالها في سوريا وفي الشرق الأوسط؟