كتاب عربي 21

هجوم إسطنبول الأخير: ليس كأي هجوم سابق

1300x600
كان عام 2016 صعبا جدا على تركيا وحافلا بالعديد من الأحداث، حيث تعرضت لأكثر من 20 هجوما إرهابيا كبيرا استهدفت مختلف المرافق فضلا عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/ يوليو، إضافة لحالة التصعيد مع حزب العمال الكردستاني وعملية درع الفرات. لكنه أيضا ختم بهجوم إرهابي استهدف ملهى ليليا في منطقة أورتاكوي السياحية في إسطنبول ليلة رأس السنة، أوقع عشرات الضحايا من الأتراك والأجانب كان للسياح العرب منهم نصيب لافت.

وبالنظر إلى رمزية الليلة والمكان، كانت رسالة الهجوم واضحة: الإعلان أن تركيا ستبقى في مرمى النيران في السنة القادمة أيضا، وأن هذه الهجمات هي من سيحدد الأجندة اليومية لها وليس أماكن اللهو والترفيه. بيد أن الهجوم حمل رسائل أكثر وأعقد من ذلك بكثير، بعضها يشترك فيها مع سابقيه من الهجمات والتفجيرات والعمليات الانتحارية، وبعضها تفرد به على نحو خاص.

فمن الدلالات والسياقات والرسائل المشتركة التي حملها الهجوم:

أولا، رسالة ضغط سياسي تتعلق بسياسة تركيا الخارجية. فالمقاربة الرسمية التركية ترى أنه بغض النظر عن المنظمة التي تنفذ الهجوم - أي هجوم - فهي مجرد أداة، بينما الموجّه من الخلف أطراف غير سعيدة بجهود الاستقلال الاقتصادي الذي تسعى إليه تركيا ولا بسياستها الخارجية سيما مسار التقارب الأخير مع موسكو واتفاق وقف إطلاق النار في سوريا. وقد أشار رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم إلى ذلك حين قال تعقيبا على الهجوم: "يبدو أن هناك من هو مستاء من دور تركيا في الاتفاق الأخير".

ثانياً، استهداف الاقتصاد والسياحة. وهو معنى واضح جدا من مكان وتوقيت الهجوم، أي في ملهى ليلي في مكان سياحي في ليلة رأس السنة، ولعل عدد الضحايا الأجانب الكبير  يشير إلى ذلك بوضوح. سيما إذا ما أضيف الهجوم لعدة هجمات سابقة استهدفت أماكن أو أفواجا سياحية.

ثالثا، سياق المواجهة مع داعش.فعملية درع الفرات مستمرة ومعركة الباب وصلت إلى نهاياتها وفق التصريحات الرسمية التركية، وهو ما يجعل المواجهة في أوجها، ولعل ذلك ما دفع البغدادي قبل أسابيع إلى توجيه أنصاره لاستهداف تركيا علناً، بعد أن كان التنظيم يمتنع على مدى سنوات عن تبني عملياته فيها.

بيد أن الهجوم حمل أيضاً دلالات أخرى مختلفة عن معظم الهجمات السابقة، أجمِلُها في ثلاث:
الأولى، استهدافه للمنظومة الأمنية التركية قبل أي شيء آخر، وإظهارها كدولة غير قادرة على حماية نفسها ولا ضيوفها/زوارها، وهو المعنى المتضمَّن أيضاً في عملية اغتيال السفير الروسي، وهنا يكون اختيار الملهى الليلي في هذه المنطقة السياحية والذي يرتاده عدد كبير من الأجانب لافتا جدا.

الثانية، لعب الهجوم على وتر التناقضات والاستقطابات الداخلية التركية، وهو أمر تكرر في هجمات سابقة، لكنه نــُفِّذَ هذه المرة بمكر شديد وحرفية عالية ينمان عن متابعة دقيقة للداخل التركي وأجندته. لقد استهدفت بعض الهجمات السابقة العلاقات التركية- الكردية، وبعضها الآخر الوتر اليميني - اليساري، أما هجوم الملهى الليلي فقد حاول تأجيج الاستقطاب المحافظ- العلماني في البلاد.

فقد كان موضوع احتفال ليلة رأس السنة مثار نقاش في تركيا الأسبوع الفائت، لدرجة أن شؤون الديانة اختارت أن تكون خطبة الجمعة عن الموضوع وتأكيدها على أن الاحتفال بأعياد الآخرين لا يليق بالمسلم، وكان هناك "هاشتاغ" شهير عن الأمر على تويتر. أدى الهجوم لتصريحات من بعض سياسيي المعارضة اعتبرت أن المستهدَف كان "أسلوب حياة معين" أي نمط الحياة العلماني، بينما سارع رئيس شؤون الديانة محمد غورماز للتأكيد على أنه "لا فارق بين استهداف مكان للعبادة ومكان للهو، كلاهما عمل إرهابي"، كما دعت عناوين الصفحة الأولى في عدد من الصحف التركية من مختلف التوجهات للوحدة في مواجهة الإرهاب والتعاضد وعدم التفرق.

الثالثة،الحرفية العالية لمنفذ الهجوم. لقد كشفت تفاصيل الهجوم عن شخص على مستوى عال من التدريب، اختار هدفه بعناية، وتعامل بمنتهى البرود بما يشير لتعوده على استهداف الأحياء، أردى الشرطي والحراسة الخاصة على باب الملهى الليلي ثم دخل وألقى قنبلتين يدويتين قبل أن يفرغ ستة "مخازن" أو "أمشاط" رصاص خلال 7 دقائق، قبل أن يغادر المكان بطريقة ما زالت غير معروفة (الأغلب أنه غير ملابسه واختفى بين الزبائن المندفعة خارج المكان) دون أن يترك خلفه أي أثر باستثناء سلاحه ومعطفه. ورغم أن التسريبات الأمنية لوسائل الإعلام تتحدث عن كشف شخصيته وجنسيته (الأغلب أنه أجنبي) فما زال اسمه مجهولاً، وما زال هو حراً طليقا.

الأهم والأخطر من ذلك هو أن هذا الإرهابي لم يخطط للموت في العملية كما سابقوه، بل أتى ونفذ عمليته ثم غادر قبل أن تنفد ذخيرته، وهو ما يعني أنه كان قد خطط للنجاة بحياته، وهذا نمط مختلف نوعاً ما عن هجمات داعش السابقة، وأيضا عن عمليات حزب العمال الكردستاني التقليدية. جمعُ التفاصيلِ في صورة كبيرة متكاملة دفع بعض الخبراء الأمنيين الأتراك إلى طرح فرضية "منظمة إرهابية جديدة" أو "فلسفة جديدة" لمنظمة إرهابية معروفة، خصوصا أن المتواتر من التسريبات الإعلامية أنه من جنسية وسط - آسيوية، وبالتالي فرض ذلك عليهم أسئلة حول الانطباع الذي تركته تركيا عن نفسها بعد التقارب مع روسيا وأدائها في شرق حلب ثم اتفاق وقف إطلاق النار، وهل أدى ذلك إلى تخطيط أطراف جديدة لاستهدافها.

الهجوم، من جهة أخرى، طرح مرة أخرى نقاشا حول مدى الفاعلية الأمنية في منع هذا النوع من العمليات، خصوصا في ظل الجدل الدائر منذ الانقلاب الفاشل حول أداء جهاز الاستخبارات وضرورة إعادة هيكلته حيث تعكف الرئاسة والحكومة على دراسة معمقة بهذا الخصوص منذ أشهر. ولئن كان متفهما أن منع العمليات الفردية من هذا النوع صعب جدا، وإن كان مكن المعروف أن الأجهزة الأمنية التركية تحبط عمليات مسابهة بشكل شبه يومي، إلا أن الأكثر انتقادا هو اكتفاء الأجهزة الأمنية بمعلومات "عامة" عن هجمات متوقعة وهو ما أدى إلى حضور أمني كثيف في عدة أماكن بينما غابت المعلومة"الخاصة" عن أماكن بعينها أو أشخاص محددين، إضافة للنقد الموجه لترك مكان مثل هذا المكان- يبدو أنه معروف بارتياد الدبلماسيين والمشاهير له ليلة رأس السنة تحديدا - دون حراسة خاصة تلك الليلة.

في كل الأحوال، كان الهجوم صادما جدا ومختلفا جزئيا عن الهجمات السابقة، بما يفرض تحديات إضافية على صانع القرار التركي الذي يتعامل منذ فترة ليست بالقصيرة مع عدة تحديات وأزمات متزامنة في الداخل والإقليم، كما أنه يؤكد على وصول ظاهرة الإرهاب إلى مستويات معقدة تجعل المواجهة التقليدية معها رهينة للفشل. الأمر الذي يطرح الحاجة إلى تفعيل منظومة متكاملة للمكافحة لعل أهم بنودها وأكثرها استراتيجية ضرورة علاج الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة بعيدا عن التبسيط من جهة والخيارات الأمنية البحتة من جهة أخرى.