نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا لمراسلها في الشرق الأوسط بن هبارد، يقول فيه إن الأشلاء في شرق
حلب كانت تتكدس على مدى الأشهر الماضية في البنايات المدمرة، التي قصفتها الطائرات السورية والروسية، فدفنت السكان الذين لم يستطيعوا الهروب تحت الأنقاض.
ويقول هبارد: "الآن انتهى الأمر تقريبا، ليس لأن الدبلوماسيين توصلوا إلى صفقة في جنيف، لكن لأن رئيس النظام السوري بشار
الأسد وحلفاءه الأجانب سيطروا على المدينة، وينتظر عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين، الذين يعانون من البرد، ومنهم من فقد أحباءه، الباصات لتحملهم من بيوتهم إلى مستقبل مجهول".
ويضيف الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، أن "هذه ليست المرة الأولى التي ينتصر فيها الأسد في الصراع السوري باستخدام قوة ساحقة، لكن إخضاع شرق حلب له تداعيات في الشرق الأوسط، وما هو أبعد من ذلك، حيث هزت التحالفات، وأثبتت فعالية العنف، وبرز تردد الكثير من البلدان، خاصة أمريكا، من التدخل".
ويشير المقال إلى أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما اعترف يوم الجمعة، في آخر مؤتمر صحافي له هذا العام، بأن الحرب السورية، التي استمرت أكثر من ست سنوات، كانت من أصعب القضايا التي واجهها, وقال إن العالم "يجمع على الاشمئزاز" من مذبحة حلب، مستدركا بأن أوباما، الذي دخل البيت الأبيض متعهدا بأن يقلل من تورط أمريكا العسكري في الشرق الأوسط، دافع أيضا عن قراره عدم التدخل بالقوة، وقال إنه لو فعل غير ذلك، فإنه كان على أمريكا أن "تكون مستعدة لاحتلال
سوريا".
وتنقل الصحيفة عن مديرة مركز كارينغي في بيروت مها يحيى، قولها إن التطورات الأخيرة في الصراع السوري ترسل رسالة إلى الحكام الاستبداديين في المنطقة وغيرها، مفادها أن استخدام القوة يؤتي ثماره وعواقبه قليلة، والدرس لضحايا تلك القوة هو أنهم وحدهم دون نصير، وتضيف يحيى: "الكل كان يراقب بعجز في الوقت الذي تكشف فيه الصراع.. يراقبون المدنيين يذبحون دون رحمة، وكل ما يستطيعون فعله هو التغريد وتوقيع العرائض".
ويقول هبارد: "هذا هو الشرق الأوسط الذي سيواجهه الرئيس المنتخب دونالد ترامب عندما يتسلم مكتب الرئاسة العام القادم، فهناك منطقة ألغى فيها الجهاديون الحدود، وروسيا تحقق تقدما، وإيران مدت نفوذها من خلال مليشيات قوية، ويتساءل حلفاء أمريكا عن مدى إمكانية الاعتماد على واشنطن".
ويلفت المقال إلى أن "ترامب لم يفصح عن سياسة شاملة للمنطقة، عدا عن تأكيد دعمه لإسرائيل، وإمكانية التعاون مع
روسيا ضد تنظيم الدولة، وربما إنشاء (مناطق آمنة) في سوريا، وهو تناقض واضح؛ لأن الطائرات الروسية قصفت المناطق المدنية".
وتستدرك الصحيفة بأن تداعيات حلب تبرز الديناميكيات التي ستشكل المنطقة خلال فترة حكم ترامب، مشيرة إلى أن "المحللين بدأوا يضيفون حلب إلى الأماكن التي فشل فيها الناس في إيقاف المآسي التي ترتكب ضد أناس آخرين، مثل غروزني ورواندا وسربرنيتشا، والمقارنة ليست مثالية، لكنها يمكن أن تشكل درسا".
وينوه الكاتب إلى أن معظم التقديرات تقول إن عدد القتلى في مذابح رواندا أكثر بكثير من ضحايا الحرب السورية، مع أن المذابح هناك تمت في وقت أقصر، ما جعل فرصة القوى الخارجية للتصرف قليلة، مستدركا بأن حصار حلب وقصفها جاء بعد سنوات من الصراع، قامت خلالها قوات الأسد بمهاجمة المتظاهرين، وألقت بالبراميل المتفجرة على الثوار، واستخدمت الأسلحة الكيماوية ضد الشعب.
ويورد المقال أنه "أكثر من ذلك، وبسبب وجود الهواتف الذكية والإنترنت، فإن توثيق الصراع السوري كان أفضل من أي صراع مسلح في التاريخ، ولكن ذلك أيضا فشل في تحقيق المساءلة".
وتنقل الصحيفة عن المحامي المتخصص في جرائم الحرب الدولية والأستاذ في كلية سيراكوس الجامعية للحقوق ديفيد كرين، قوله: "أصبحت حلب رمزا للمدى الذي تراجعناه.. إنها جزء من ابتعاد على مستوى العالم عن مفهوم القرية العالمية، وبدأت الدول تنكمش على نفسها".
ويفيد هبارد بأنه في الوقت الذي يعترف فيه بضعف العدالة الدولية، فإن البروفيسور كرين عمل خلال الصراع السوري على جمع ما يستطيع من أدلة على جرائم الحرب المحتملة ضد مختلف الفصائل؛ أملا بأن تتم محاكمة الجناة يوما ما، وقال: "أعتقد بأننا مع الوقت سنكون قادرين على التقدم.. فالعدالة الدولية لن تختفي".
ويورد المقال مثالا على ذلك، الرئيس السابق لليبيريا تشارلز جي تيلور، الذي ساعد كرين على سجنه في محاكمة دولية، بعد عدة سنوات من ارتكابه للجرائم.
وتذكر الصحيفة أن "الصراع السوري لم يبدأ بالحرب الأهلية، لكنه بدأ بصفته ثورة شعبية، بهدف الإطاحة بالأسد، فرد الأخير على المظاهرات بالرصاص والاعتقالات والتعذيب، واضطر الكثيرون في المعارضة لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، ومحاربة قوات النظام، وحصلوا على دعم دول الخليج وتركيا والسوريين في المنفى وأمريكا، وتصاعد الصراع من هناك، في الوقت الذي طلب فيه الأسد المساعدة من روسيا وإيران".
ويبين الكاتب أنه "عندما انحسرت سيطرة الدولة، وانتشرت الفوضى، نشأت الحركات الجهادية، وجذبت المجندين المتحمسين دينيا وبتمويل جيد، فدعمت اتهامات الأسد للمعارضة بأنها إرهابية، ومع مرور الوقت، وعندما ضاق أفق النشاط المدني، أصبح هذا الادعاء أكثر صحة، ما أعطى الدول الغربية سببا آخر لعدم التدخل".
وبحسب المقال، فإن "أوباما شجب الأسد كونه زعيما غير شرعي، لكنه أبقى القوات الأمريكية خارج معركة الإطاحة به، وبرر موقفه بأن أمريكا لا تستطيع حل الصراع، وأن سوريا ليست أولوية أمريكية مركزية، وحتى عندما قام الأسد باستخدام الأسلحة النووية، وتجاوز (الخط الأحمر)، فإن أوباما لم يقم بقصف سوريا، ما أغضب المعارضة وحلفاءها في السعودية، الذين شعروا بأن ذلك مكّن الأسد، وقام أوباما، بدلا من ذلك، بعقد صفقة مع روسيا؛ لتخليص سوريا من الأسلحة الكيماوية".
وتستدرك الصحيفة بأن "الحرب انتشرت، وولدت رعبا جديدا أثر في أمريكا وحلفائها، واستولى تنظيم الدولة على أراض سورية وعراقية، وأعلن (الخلافة)، وألهم مجندين للقيام بتفجيرات من بنغلادش إلى سان برناردينو في كاليفورنيا، وأرسل العنف موجات من اللاجئين إلى لبنان والأردن وتركيا، وأرخى الحبل لتدفق المهاجرين إلى أوروبا، الأمر الذي قوض وحدتها واستقرارها".
ويؤكد هبارد أن "هذه الصدمات كلها ساعدت على خلق البيئة التي وقع فيها الحصار والقصف لشرق حلب، مغيرة اتجاه الصراع، وستترك سيطرة الأسد على حلب المعارضة دون السيطرة على أي من المدن السورية الكبرى، وقد يكون ذلك نذيرا بانتهائها باعتبارها قوة سياسية تستطيع الضغط على الحكومة للتفاوض".
ويورد المقال نقلا عن الزميل المقيم في معهد تحرير لسياسات الشرق الأوسط في واشنطن حسن حسن، قوله: "إن نظام الأسد انتصر في حرب استراتيجية.. فمن ناحية معنوية لم يعد ينظر إلى المعارضة على أنها قوة تستطيع هزيمة بشار الأسد"، بالإضافة إلى أن الزعماء الآخرين تنبهوا لأسلوبه، وأضاف حسن أن "قواعد لعبة الأسد الآن تقول إن بإمكانك تحطيم شعبك، وتستطيع تدمير المدن، وتستطيع استخدام الأسلحة الكيماوية، وتستطيع تمكين المتطرفين، وسيقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي ولا يفعل شيئا.. هذه سابقة للديكتاتوريين الذين يشعرون بالتهديد من شعوبهم".
وتجد الصحيفة أن "سيطرة الأسد على حلب لا تعني نهاية الحرب، وقالت دول الخليج، مثل قطر، إنها ستستمر في دعم الثوار، ويتوقع كثير من المحللين بأن الحركة ستتحول إلى تمرد طويل الأمد، بالإضافة إلى أن خسارة الأسد المفاجئة للمدينة الأثرية تدمر الأسبوع الماضي لصالح تنظيم الدولة تشير إلى أن جيشه موزع بشكل سيئ".
ويشير الكاتب إلى أن "
الانقسام الطائفي تكرس في حلب، فالثوار دعمتهم قوى سنية، مثل السعودية، واعتمد الأسد بشكل أكبر على المليشيات الشيعية، التي تدعمها إيران، لتقوية قوات الأسد في حلب، حيث المقاتلين من حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية من العراق وغيرها، الذين ينظرون إلى المعركة من وجهة نظر دينية".
ويقول هبارد إن "كثيرا من السوريين، بمن في ذلك من هم في المناطق التي يسيطرعليها النظام في حلب، سيكونون سعداء عندما يسيطر الأسد على المدينة كاملة؛ لأنهم يرونه رمزا للدولة الموحدة، أو لأنهم لا يثقون بالثوار لقبولهم المساعدات من قوات أجنبية، وغيرهم سيكون سعيدا لمجرد توقف القتال، فبالنسبة للبعض كان أهم ضحايا هذه الحرب هو تمكن السوريين من العيش سويا".
وينقل المقال عن مدير مركز أبحاث الشرق في دبي سمير التقي، وهو جراح وعضو سابق في البرلمان السوري، قوله إنه يتجنب النظر إلى الصور الآتية من حلب، حيث نشأ وبدأ مهنته، ويضيف التقي: "لا أستطيع تحمل النظر إلى تلك الصور؛ لأنها تعني الانهيار الأخلاقي الكامل.. وسيجعلني النظر إليها متطرفا جدا"، ويتابع قائلا: "يخيفني التعامل مع الشباب السوريين الذين عاشوا تلك الحرب".
ويمضي التقي، وهو في منتصف الستينيات من عمره، قائلا: "لدي انطباع بأن هؤلاء الناس ليسوا بعيدين كثيرا عن الموت.. إنهم يشعرون بالحزن لأنهم أحياء، لأن جميع أحبابهم ماتوا"، واستذكر أيام شبابه في حلب قبل عقود، عندما كان جيران عائلته يهودا ومسيحيين، وكانت يسود المدينة "الطابع التجاري".
وتختم "نيويورك تايمز" مقالها بالإشارة إلى قول التقي إنه عندما كان الابن أو الابنة يحضران إلى البيت صديقا "أذكر كيف لم نكن نسأل عن دين جيراننا أو أصدقائنا"، وتساءل: "ما الذي سيحصل لهذا التاريخ؟".