تغير المشهد في الداخل الليبي سريعا بعدما أعلنت قوات عملية "
البنيان المرصوص"، التي أطلقتها حكومة الوفاق أيار/ مايو الماضي، سيطرتها الكاملة على مدينة
سرت، بعد دحر آخر ما تبقى من أفراد تنظيم "داعش" المحاصرين بها، مساء الثلاثاء 6 تشرين/ ديسمبر الجاري.
ولم تكن هذه الحرب هينة ولا التخلص من تنظيم إرهابي عالمي بالأمر السهل، فقد قدمت هذه المجموعة المسلحة "البنيان المرصوص" تضحيات عدة في حرب دامت أكثر من ستة أشهر متواصلة، ووصل عدد قتلى القوات إلى 713 قتيلا، وأكثر من 3210 جريح، بحسب مستشفى مصراتة المركزي، ويقابلها خسائر كبيرة في صفوف مقاتلي تنظيم الدولة، ما بين قتيل وجريح وأسير وهارب..
ورغم أن التحرير أمر جيد، والاحتفالات عمت ربوع
ليبيا، إلا أن التخوفات والقلق هما سيدا الموقف، وتتلخص التخوفات في: تحول القوة المنتصرة إلى "مارد" جديد يطلب بحقوقه وموقعه في المشهد العسكري "المختنق أيضا"؟ وهل ستوكل مهام أخرى لهذه القوات ومنها "افتراضا" المناوشات أو الاشتباك مع قوات عملية الكرامة بقيادة خليفة حفتر في الشرق الليبي والتي تسيطر على الموانئ النفطية أيضا"؟ وكذلك من يضمن عدم وجود خلايا نائمة للتنظيم الإرهابي في سرت؟ ومن سيؤمن المدينة بعد انسحاب القوات منها؟ ومن سيعيد إعمارها وإعادة النازحين؟؟
.. تساؤلات ليس الغرض منها إفساد فرحة الانتصار على السرطان الإرهابي، لكن من أجل اكتمال مظاهر الفرح والانتقال من الفوضى إلى الدولة، واستكمال استراتيجية تطهير الغلو والتطرف، واستثمار نجاحات قوات منظمة مثل البنيان المرصوص كنواة لجيش ليبي موحد.
وأهم تخوف الحقيقة: هو تحول "البنيان المرصوص" إلى مارد عسكري جديد، خاصة بعد حالة الفوضى التي شهدتها العاصمة طرابلس مؤخرا.. وقد وردتنا أنباء أن هناك بعض الكتائب داخل عملية البنيان المرصوص ترفض حكومة الوفاق وتعاطيها مع الحرب الأخيرة وضعف أدائها، وأن هذه الكتائب قد ترفض الانصياع لأوامر المجلس الرئاسي أو أن تنسحب من سرت قبل ضمان مستقبلها العسكري بعد العودة.. وهذا من حقها.. ويظل الرهان هنا على تعامل حكومة الوفاق مع الأمر واستيعاب هؤلاء المقاتلين في صفوف مؤسسة أمنية موحدة وقوية.
وفي خطوة قد تكون آلية صحيحة لاستيعاب المقاتلين العائدين من سرت، هو ما صرح رئيس جهاز الحرس الرئاسي، نجمي الناكوع، أنه سيتم فتح الباب أمام الشباب للالتحاق بالحرس الرئاسي، وأن الأولوية ستكون للعناصر التي خاضت الحرب ضد الإرهاب خلال الفترة الماضية. و"الحرس الرئاسي"، قوة أمنية تم تشكيلها بقرار من حكومة الوفاق الوطني الليبية، لتقوم هذه القوة العسكرية النظامية بحماية المقرات الرسمية وتأمين الحدود وحراسة الوفود، وتكون ذات استقلالية تامة، وقد ساهمت هذه القوة في تمكين حكومة السراج من دخول العاصمة طرابلس، والاستقرار فيها حتى الوقت الراهن.
ووجود هذه القوة وتنظيمها وهيكلتها وضم عناصر جديدة، سيساهم في:
- استيعاب أكبر مجموعة مسلحة في الغرب الليبي داخلها، ما قد يعمل على إحداث حالة توازن عسكري وسط انتشار كتائب كثيرة خارج إطار الشرعية، ومن شأن هذه المنظومة "حرس رئاسي"، ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار بعد حالة الفوضى التي شهدتها طرابلس مؤخرا، وردع كل الخارجين عن القانون والكتائب التي تقوم بالابتزاز أو انتهاك حريات الأشخاص، وآخرها الكتيبة التي انتشر مقطع مصور لبعض أفرادها يغتصبون سيدة، وهو ما أثار الرأي العام.
- بناء جيش ليبي موحد، بعد ضخ دماء ثورية جديدة فيه، وقد يكون هذا الجهاز هو النواة الحقيقية لمؤسسة عسكرية قوية في ليبيا، في ظل غياب كامل لمثل هذه المؤسسة غربا وشرقا، فالغرب رئاسة أركان ضعيفة ولا تملك من أمرها شيء وتتحكم فيها مجموعات مسلحة، بعضها "مؤدلج"، وفي الشرق قوات تقاتل بجانب خليفة حفتر وولاءها لشخصه ومشروعه فقط.
.. لكن مع هذه الإيجابيات للحرس الرئاسي، إلا أن التخوف الأكبر هو أن يصبح هذا الجهاز حرس شخصي لبعض المجموعات تستقوي به على غيرها وتتحكم به في المشهد، وهو ما كان يفعل معمر القذافي، أو يصبح الحرس الرئاسي جيش مواز يتحكم هو في المشهد وشخصياته.
.. الخلاصة من تحرير سرت، وحالة الفوضى التي شهدتها العاصمة طرابلس، هو أن يتم استغلال انتصارات سرت في استيعاب القوات المقاتلة هناك، وإرجاع بعضها إلى العاصمة لضبط الأمن وإنهاء منظومة الميليشيات المتناحرة وجعل الجميع تحت راية موحدة أساسها "الجيش الليبي"، بعيدا عن الشخوص والمناطق... ومن هنا قد تكون الانطلاقة الحقيقية لمؤسسة عسكرية موحدة وقوية تساهم في ضبط المشهد العام إلى دولة مؤسسات لا دينية ولا عسكرية، تكون الكلمة فيها فقط للناخب الليبي.