يقف العشرات من
النازحين، القادمين من حي كوكجلي شرق مدينة
الموصل، مع الآلاف من مواشيهم، عند آخر حد يسمح لهم ببلوغه مع ماشية هي كل ما تبقى لهم من رحلة النزوح من المعارك الدائرة، بين القوات الحكومية والمليشيات الموالية لها وبين تنظيم الدولة منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
هؤلاء لا ينتظرون السماح لهم بدخول مخيم النازحين، بل ينتظرون السماح لمواشيهم بدخول إقليم شمال العراق، بعد رحلة نزوح طويلة من الموصل، مركز محافظة نينوى، شمال العراق.
ويتجه النازحون إلى مخيم الخازر (35 كم شرقي الموصل)، الذي شيدته الحكومة العراقية، بالتنسيق مع حكومة إقليم شمال العراق، ويتسع لنحو ثمانية آلاف عائلة، وتديره وزارة الهجرة العراقية، أو يتوجهون إلى مخيم حسن شام (على بعد 5 كم شمالي المخيم الأول)، الذي شيدته الأمم المتحدة، بالتنسيق مع حكومة إقليم شمال العراق، ويتسع لقرابة 24 ألف نازح، تحت إدارة حكومة الإقليم.
أسواق لبيع الماشية
كوكجلي، المعروفة على مستوى العراق بتربية الماشية، حولت منطقة "برطلة" على الحد الفاصل بين الجيش العراقي وقوات البيشمركة (جيش إقليم شمال العراق)، إلى سوق لبيع الماشية، لكن بأبخس الأثمان كي ينقذ هؤلاء النازحون ما يمكن إنقاذه.
ويشتهر سكان حي كوكجلي بتربية الأغنام والأبقار؛ ما جعلها مركزا لتصدير الماشية لبقية مناطق العراق.
لكن هذه الماشية باتت نقمة على أصحابها، إذ تمنع الإجراءات الرسمية النازحين من إدخال مواشيهم إلى إقليم شمال العراق؛ ما أسقطهم في براثن استغلال تجار من إقليم شمال العراق يشترون منهم الماشية بأسعار زهيدة للغاية.
وبينما يسوق أغنامه باتجاه منطقة مفتوحة هربا من تجار أغنام يلاحقونه، يقول ساجد حميد (43 عاما)، إن "صعوبة إيجاد كفيل (أحد سكان المنطقة) لإدخال الماشية بعد هذه الحدود أو توفير مياه الشرب لهذه الأغنام هو العامل الرئيس في انخفاض أو ارتفاع أسعارها".
ومتحدثا عن من يلاحقونه من تجار، يضيف حميد، في حديث مع وكالة الأناضول، أنهم "يحاولون شراء أغنامي بنصف سعرها؛ لأنني نازح ومجبر على بيعها، حيث لا يسمح بدخولها" إلى الإقليم.
ونزح حميد من شرقي الموصل برفقة عائلته المكونة من سبعة أشخاص، لكنهم لم يتوجهوا مباشرة إلى مخيم الخازر، حيث يفضل حميد أن يحسم أولا مصير أغنامه، إما ببيعها أو محاولة إلى إقليم الشمال.
وعن مصير هذه الأغنام، يقول حميد: "اليوم حصلنا على المياه، فشربت الأغنام وأكلت وارتفعت أسعارها بعض الشيء.. مساء أمس عطشت أغنامي، فبعت بعضها بأسعار زهيدة؛ كنت أخاف أن تموت، فبعت إحداها بـ25 ألف دينار (20 دولارا أمريكيا)، بينما سعرها الطبيعي 250 ألف دينار (200 دولار أمريكي)".
ويختم حميد بقوله: "لست مجبرا اليوم على بيع أغنام بأسعار زهيدة، فقد شربت وارتوت وارتفع ثمنها قليلا.. لكن المشكلة لم تحل تماما، وقد أجبر على بيعها".
إجبار على بيع الأغنام
قرب ناحية برطلة شرقي الموصل، يتفاوض تجار أغنام من مدينة أربيل (عاصمة إقليم شمال العراق) مع نازح يمتلك قرابة الـ100 بقرة.
وخلال التفاوض والحساب، ترتفع أصواتهم، فيستخدم التجار آلة إلكترونية حاسبة لتفصل بينهم كي يقتنع صاحب الأبقار.
ملامح وجه صاحب الأبقار تظهر أنه مغلوب على أمره، لكن ما بيده حيلة، فهو مجبر على بيعها بنصف ثمنها أو أكثر بقليل، كي يسمح له بدخول مخيم النازحين، أو إن عليه إحضار كفيل من سكان أربيل ليتمكن من إدخال ماشيته.
ولا تسمح سلطات إقليم شمال العراق بدخول نازحي الموصل مع مواشيهم، إلا بوجود شخص يتكفلهم من سكان الإقليم.
أحمد عليوي (29 عاما)، وهو من النازحين من كوكجلي، يقول: "لدي 50 خروفا، وعند ولدي عمي 400 خروف، لكن لا يوجد لدينا كفيل.. والآن أجبرنا على بيعها بأسعار أقل من السوق الاعتيادية بكثير".
ويضيف عليوي، أن "الكثير من النازحين أجبروا على بيع أغنامهم، فلا يمكننا اصطحاب الأغنام داخل المخيم، رغم أننا نعتمد في معيشتنا على تلك الأغنام، التي لم يعد تتوفر لها الأعلاف ولا المياه.. فلا سبيل إلا البيع".
وقرب الحد الفاصل، يفترش العشرات من عائلات أصحاب الأغنام العراء، حيث باتوا ليلتهم على أمل إنهاء وضع أغنامهم..
هم يحملون أمتعتهم في مركباتهم، ولا تزال مائدة واحدة على الأرض تجمعهم، رغم ما يمرون به، حيث إنهم يتناولون الطعام سوية بعد أن ذبح أحدهم إحدى أغنامه.
ورغم محنتهم، فإن هؤلاء النازحين من أصحاب الأغنام يضَيفون المارين من أمامهم لشراء الأغنام ويدعونهم إلى تناول الطعام معهم.
الخشية من موت الأغنام في رحلة النزوح
حاتم شاكر (52 عاما)، وهو أيضا نازح من كوكجلي، قال: "أصيبت زوجتي في هجوم لتنظيم الدولة على كوكجلي خلال الاشتباكات مع القوات العراقية، وجرى نقلها إلى أحد مستشفيات أربيل لتلقي العلاج.. سرت مع أغنامي لست ساعات حتى وصلت إلى هذا المكان في ناحية برطلة".
في النهاية، وكما يضيف شاكر، فإن "التعب نال من أغنامي، وخشيت أن تموت، فبعتها بثمن بخس.. كان لدي 100 رأس من الماشية بعتها بسبعة ملايين دينار، أي بـ70 ألف دينار للخروف الواحد (حوالي 55 دولارا) بغض النظر عن وزن كل خروف".
وأينما تواصلت مأساة شاكر وغيرها من أصحاب الماشية بخسائر مادية جديدة، فإن آخرين من أصحاب الماشية، من النازحين، يفترشون العراء في حيرة من أمرهم، فإما أن يبيتوا في هذا العراء مع أغنامهم أو يبيعوها، وهي كل ما تبقى لهم، بأبخس الأثمان، لتسمح لهم السلطات بدخول مخيم الإيواء.