سؤال ممض يخامر المراقب للمشهد السياسي التونسي قبل سنتين من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي والبرلماني القادم في 2019. الأكثر تشاؤما من التونسيين يتساءل: هل سنبلغ هذا الاستحقاق فعلا وننجز انتخابات أخرى تساهم في ترسيخ الانتقال الديمقراطي السلمي؟ والأقل تشاؤما يقول كيف سنبلغه بمشهد حزبي مفكك وباقتصاد منهار؟ يتركز النظر على حزب الرئيس فهو مدار الفعل السياسي الأهم باعتباره الحزب الحاكم والذي شكل الحكومات الثلاث منذ انتخابات 2014. لكن بقية المشهد تستحق لفتة فمصائب حزب النداء لا تعفيها من مسؤولية الاستعداد لما بعده.
هل انهار حزب النداء فعلا؟
قد يرى البعض أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه بل إنه يدخل في باب التمني العاجز ويصدر عن محللين كسالى يريدون له أن ينهار دون أن يبذلوا في ذلك جهدا. فالحزب موجود في الواقع وإن لم يفلح في عقد مؤتمره الأول بل حكم دون أن تكون له هياكل ولا مؤسسات تنظيمية.بل إن أغلب تمثيلياته الجهوية أغلقت أبوابها ويشاهد أنصاره مجتمعين في المقاهي كركاب قطار تأخر موعده.
استطلاعات الرأي المنشورة لا تزال تعطيه المكانة الأولى في نوايا التصويت لكن مؤسسات السبر نفسها ليست محل ثقة وعملها مدخول بأسئلة موجهة لإجابة متفائلة بما يجعل نتائجها محل تندر.
يستشهد البعض بانتصار الحزب في انتخابات 2014 دون أن تكون له مؤسسات ويقول أن أنصاره موجودون على الأرض بدرجة لا يحتاجون فيها إلى دعاية انتخابية وتدريب انتخابي. ويكفيهم صفارة الزعيم ليهبوا.
لكن رغم ذلك نرى أن الحزب قد تحلل وفقد روابطه الماسكة لأطرافه، وأنصاره الآن في أسوأ حالاتهم النفسية ويعيشون فاقدين للأمل يسكنهم الرعب من فقدان السلطة نهائيا وظهرت مؤشرات هروبهم إلى ملاجئ سياسية أخرى تعصمهم من نتائج 2019.
التركيبة الأولى مغشوشة
لنعرف هذه النهاية الكارثية يجب أن نعود إلى البداية فهناك وضعت جرثومة فناء الحزب. قام الحزب على غاية أن يقطع الطريق على تحكم الإسلاميين ومن يحالفهم أي ممن لا يعيش بإقصائهم. هذه الغاية البسيطة والواضحة جمعت حولها كل عدو للإسلاميين وأهمهم اليسار الفرانكفوني وكذلك كل الخاسرين من فلول النظام السابق ممن كانت الدولة تمثل لهم ضرعا يحلب لغنائم خاصة. وقد رأوا أن الحزب الإسلامي الدخيل على المشهد يمكن أن يحرمهم إلى الأبد من ذلك.
تحالف نفعي براغماتي بلا برنامج حكم. فلا شيء يؤلف بين عناصره إلا تلك الرغبة وقد أفلحت في التجميع وفي وقت قياسي وكان لشخص الباجي قائد السبسي دور مهم خاصة لجهة تذويبه للطموحات الشخصانية لبعض القياديين فقد كان لا بد من شخصية جامعة وقابلة بمبدأ قطع الطريق. أفلح الحزب قبل أن يعقد أي مؤتمر في استعادة السلطة ومسك الرئاسات الثلاث. لكن حلت لحظة الحقيقة. الحزب غير قادر على الحكم وحده بل لابد له من شريك بغيض، ووجد نفسه يناقض أسباب تأسيسه ليقسم السلطة مع عدوه ولو دون مراعاة الوزن الانتخابي للشركاء.
القسمة قللت الغنائم
الداخلون من أجل الغنيمة قل حظهم منها، بل رأوها تذهب لغريمهم. والداخلون من أجل الاستئصال وجدوا غريمهم في السلطة، أي في منعة من القتل ولو بوزير وحيد. هنا بدأت الحرب الداخلية وانطلق التفكك وتفاقمت الكسور.
الكسر الأول كان بخروج الأمين العام والذي كانت عينه على كرسي الرئيس فحمل معه أغلب الوجوه الاستئصالية.
الكسر الثاني تجلي في عجز الحزب عن تقديم برنامج حكم مقنع لفئات واسعة صوتت له على طمع أن يوزع عليها مغانم السلطة (مناصب و أعطيات عينية).
الكسر الثالث تجلي في رغبة الرئيس أن يمكن لعائلته من الدولة والمغانم بما دفع بقية الطامعين في السلطة إلى التظلم ثم الشروع في تهرئة الحزب بالاستقالات فلم تبق فيه إلا الكتلة المحافظة من بقايا حزب التجمع وهي كتلة غبية بلا برنامج.
الكسر الرابع تمثل في إيقاظ أدواء قديمة حكمت السياسة التونسية منذ العهد البورقيبي هي الكسور الجهوية وخاصة بين منطقة الساحل (التي تعبر نفسها صاحبة حق مطلق في الحكم ومغانمه) وبين منطقة العاصمة ذات الأغلبية الحضرية التي ترى نفسها الوريثة الوحيدة للسلطة منذ عهد البايات والتي كان بورقيبة قد همّشها ووضعها في حجم ومكانة العبد التابع. ويعتبر فرض أحد أبنائها (يوسف الشاهد) على رئاسة الحكومة بعد رجل الساحل الأخير (الحبيب الصيد) الضربة التي دقت الإسفين الأخير بين بلدية (حضر) العاصمة وبين كتلة المال الساحلي ذات الثقل الانتخابي الكبير.
في الأثناء يرابط الشريك الإسلامي على مواقعه ثابتا لا يتفكك رغم التحريض اليومي واختلاق الزوابع داخله. ويبتعد الحزام المحايد بين الحزبين عن حياده ويؤلف احتمالا لطريق ثالث لا يزال جنينيا. الإعلان عن حزب جديد هو نعي صريح للنداء.
من العسير على أي محلل أن يفهم كيف يتقدم الحزب في نوايا التصويت في ذات الوقت الذي يعلن فيه مؤسسه على تأسيس حزب آخر بديل له. فأنصار الحزب وإن عرفوا بأنهم محافظون فإنهم ليسوا مريدي طريقة صوفية يحملهم شيخهم حيث يريد. لذلك لا بد أن يطرح سؤال مهم هنا والآن من سيلتحق بالحزب الجديد من داخل النداء؟ ومن سيأتيه من خارجه إذا قام؟ وكم يكيفه من الوقت ليكون حزبا قادرا على خوض الانتخابات القادمة؟
مازلنا في مرحلة التخمين فالفكرة تكبر في صمت إعلامي ولكن السؤال يطرح بمن سيؤلف الباجي حزبه وماذا سيكون طرحه؟
الذين لم يلتحقوا بالنداء ممن لم يكن متحزبا لا يتوفر لهم داعي اللحاق بالحزب الجديد وقد رأوا فشل النداء.. فكيف يتحمسون لماكينة فاشلة أو أسسها فاشلون؟
الذين خرجوا من النداء لفشله، ما الذي قد يعيدهم إلى توليفة جديدة يقدمها نفس الشخص؟ من يضمن لهم مثلا أن الرئيس لن يفرض أسرته على الحزب الجديد وقد كان ذلك أحد أسباب فشل النداء؟
بدون برنامج استئصالي وبضمانات قيادية لن يعود تحالف اليسار مع الباجي.. (الضمانة الوحيدة هي أن تكون قيادة الحزب الجديد يسارية بالكامل كما حاولت في أول تأسيس النداء لكن الباجي وكما قال أحدهم ليس طفلا يمتص إصبعه). اليسار غير قادر على التوليف الحزبي بدون الباجي فكيف يطمع أن يستخدم الباجي ليبني له حزبا ثم يركنه في صف خلفي؟ وهكذا إذا لم يتوفر شرط القطيعة من النهضة (الإسلاميون) فلن يعود اليسار إلى الباجي وحزبه الجديد. وما دامت النهضة في الصورة/ المشهد فالطامعون لن يأتوا لغنائم قليلة. نحن إذن أمام مشهد جامد. لم ينكسر بعد ولكنه لم يعد قادرا على التقدم فمن يمكن أن يكسر هذا الجمود؟
التيار الاجتماعي يتأخر في الظهور
على الأرض توجد أحزاب صغيرة ذات هوى اجتماعي لكنها أقرب إلى طيور القُبَّرة التي لا تحتمل العيش في أسراب. لذلك فهي قبرات منفوشة في فردانيتها وليس لها قدرة على أن تشكل بديلا للمشهد المتكلس. والمحاولات التي تجري الآن لتوحيدها تصطدم بنفس العائق الذي فرق بينها في انتخابات 2014 فتشتت حظوظها بين قائمات لم ترتق إلى أكبر البقايا التي يسمح بها القانون الانتخابي. ذلك الجمود في رأس المشهد السياسي وذلك التشتت في قاعه يحبط أمل التونسيين في الديمقراطية وينتج ردات فعل مرضية تطالب بالدكتاتورية وأميل إلى الاعتقاد أن هذا الاحتمال لم يعد مستبعدا وإن قال الجميع برفضه.. لكن الطبيعة تأبى الفراغ.