ليس هناك شك أن النظام الحاكم الحالي في مصر هو أفشل نظام عرفته البلاد في عصرها الحديث، وأن هذا الفشل ليس وليد اللحظة، وإنما هو امتداد لفشل الحكم العسكري الذي استولى على مقاليد الحكم في البلاد بواسطة عدد قليل من الضباط منذ عام 1952م، فقد تدهورت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عصرهم بشكل سريع، لكن التدهور الاجتماعي كان هو الأخطر وهو أكبر شاهد على هذا الفشل، فهو ظاهر ولا يستطيع أن يجادل فيه أحد كما يراه كل أحد سواء في اتساع دائرة الفقر فضلا عن دائرة الفقر المدقع، أو في ارتفاع الأسعار التي يصرخ منها كل الشعب وليس الفقراء وحدهم كما يراه في 20 مليون مواطن يعيشون في العشوائيات، و5 ملايين مواطن يعيشون في المقابر، و2 مليون طفل مشردون في الشوارع، وملايين المرضى بالفيروس سي أو السرطانات أو السكر بلا رعاية صحية، أو في انهيار التعليم ووصول الأمية لدرجات مخيفة، لدرجة أن من يراه نظاما لنشر الجهل والأمية لديه قدر كبير من المصداقية.
وليس هناك شك أن ثورة يناير-التي هي في حقيقتها ثورة على حكم العسكر- لا تزال حية، وأنها تلقي بظلالها على سائر المشهد السياسي والاجتماعي بمصر، سواء بشكل غير مباشر عن طريق استمرار العمل على إجهاض وتتبع كل آثارها، أو بشكل مباشر عن طريق العمل على الالتفاف عليها وعلى أهدافها، ولو بمحاولة استنساخها كما حدث في 30 يونيو.
فقد فتحت ثورة يناير كل أبواب التغيير في مصر على مصاريعها، وجعلت المجتمع ممسكا بكل أدوات الثورة والتغيير، قادرا على تفجيرها وقتما يشاء إذا شاء.. ولهذا صار المراقبون ينتظرونها في كل لحظة وتخافها السلطة وتترقبها في كل إجراءاتها، وهو مشهد جديد لم تعتده مصر على طول القرون، ولم ينتظره منها المراقبون مهما ساءت الأوضاع السياسية.
لقد أصبحت ينابيع الثورة أقرب من الجميع من أي وقت مضى، وصارت خرائط الاحتجاج تشمل مساحات عريضة من المجتمع المصري، وباتت براكين الغضب منتشرة على طول البلاد، وأمست براميل السخط مبعثرة في كل شارع وحي ومدينة؛ فقد وصل المجتمع لحالة نادرة من حالات التأهب للانفجار في وجه السلطة الغاشمة.
قد يغضب بعض السياسيين الذين يريدونها ثورة على المظالم السياسية، وقد ينظر بعضهم إلى هذه الغضبة باعتبارها غضبة متمركزة حول رغيف العيش والحد الأدنى من الحياة الكريمة، لكنهم ينسون أن المطالب الاجتماعية هي قاطرة الثورات، فضلا عن أنهم قد فشلوا في أن يقنعوا الناس بالمطالب السياسية فعادت الكرة مرة أخرى إلى ملعب الجماهير كما كانت في يناير، حيث كانت المشكلات المعيشية والمعاناة اليومية للمواطن، هي السبب الأهم في مشاركة الملايين وكان ذلك هو أهم أسباب زلزلة عرش الطغيان آنذاك.
لقد تم تعديل جوهر الخطاب السياسي اليوم قسرا ورغما عن النخبة ومن قلب الشارع، فقد أصبحت العربة خلف الحصان وصار من الواجب السير خلف الشارع، وترديد خطاب الشعب والإنصات للصوت الصادر من الحواري والنجوع ومن داخل التكاتك.
ليس مطلوبا من النخبة إلا أن تترك الخطاب السياسي المحنط لتتعلم فنون الخطاب الاجتماعي الحيوي والمتحرك، فإذا كانت النخبة قد فشلت في توصيل رسالتها عبر خطابها المحنط، فإن الفرصة أمامها لا تزال سانحة من خلال الاستناد إلى الخطاب الاجتماعي الذي أطلقه الشارع.. فإذا كانت ينابيع الثورة السياسية قد جفت، فإن ينابيع الثورة الاجتماعية لا تزال زاخرة بكل جديد ومليئة بالمفاجآت، وإذا كانت براميل الغضب السياسي قد أصابها العطب، فإن براميل السخط الاجتماعي لا تزال فتية بكرا قادرة على تجديد الساحة بكاملها وضخ الدماء في أرجائها.
كما يجب أن نعلم أن السلطات التي قد تقدر على محاصرة الاحتجاجات السياسية كليا أو جزئيا بشكل دائم أو مؤقت، فإنها تقف عاجزة أمام الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي، بل وتجد نفسها عارية تماما ولا تجد لها أعذارا تدافع بها عن نفسها، فقد أخذت فرصتها كاملة خلال ستين عاما لم تر البلاد خلالها غير الفقر والبطالة والأمية والمرض والتشرد والتخلف على الأصعدة كافة، لقد أصبحت مصر في عصورهم دولة قزمية.
وفي ضوء ذلك يمكن قراءة فيديو سائق التوك توك (مصطفى الليثي) الذي لمس أوتارا حساسة لدى كل شعب مصر، وتجاوب معه غالبية القطاعات والشرائح الاجتماعية والعمرية، بل ورأوه أفضل من عبر عنهم وأفصح من تكلم باسمهم.. وفي ضوء ذلك اكتوى كل شاب في مصر بالحريق الذي نشب في جسد سائق الأجرة (أشرف شاهين)، فغالبية الشباب يكتوون بنار البطالة وجميعهم يصرخ من نار الأسعار.. وفي ضوء ذلك دخل صوت شرشوب همام كل القلوب وهو يصرخ في السيسي: غور أو ارحل!! ورأينا الفتاة القاهرية تقول له: لن نقبل أن نضرب بالجزمة بعد اليوم!! ورأينا ربة المنزل تصرخ في قلب الشارع أو الحارة منددة بكل أشكال الغلاء، ومصورة بلغة فصيحة كيف أن الحياة في مصر أصبحت مستحيلة.
كل هؤلاء تحدثوا بلغة ثورة يناير وبلهجتها التي لا تزال حية في القلوب كما في الوعي الباطن للجماهير.. كل هؤلاء عاشوا حلم العيش والحرية والكرامة الإنسانية، ولن يقبلوا من أي سلطة أن تنسيهم هذا الحلم فضلا عن أن تتجاوزه في سياساتها، فلقد حرث السخط الاجتماعي قاع المجتمع ومهد الأرض لموجة جديدة من موجات ثورة يناير، فهل استعد أهل السياسة لها؟
الشرق القطرية