كلما حلت ذكرى انتصارات أكتوبر من كل عام، وجد البعض فيها مناسبة لرد الاعتبار للرئيس المخلوع حسني مبارك، باعتباره أحد أبطال هذه الحرب، وليس من "أخلاق القرية" تجاهله، أو الاستمرار في التنكيل به، والذي زاد وغطى هذا العام، هو عدم وضع صورته كواحد من الرؤساء الذين حكموا
مصر، في الاحتفالات التي تشهدها شرم الشيخ، بمناسبة مرور 150 عاماً على نشأة الحياة البرلمانية في البلاد!
في هذا العام، فإن جرعة "الشحتفة" كانت زائدة عن المنسوب السنوي، ربما لأن جماعة "الوفاء والأمل" والتمسك بالقيم النبيلة، لم يعودوا يرون حرجاً في الانحياز لمبارك، فقد أيقن الجميع أن ثورة يناير انتهت، وأن بيان 3 يوليو، لم يكن استكمالاً لها، وإنما عودة لعهد مبارك، وأصبحت الثورة المصرية يجري التطاول عليها في وسائل الإعلام التي تمثل أذرعاً إعلامية للسيسي، ومن هنا يصبح الوقت مناسباً الآن أكثر مما مضى لرد الاعتبار لمبارك، باعتباره شهد أكتوبر، بل كان أحد القيادات التي انتصرت في هذه الحرب!
لا يوجد أحد في الجيش المصري ومن أصغر جندي، إلى وزير الدفاع الحالي، شارك في حرب أكتوبر، ومع ذلك يجري استدعاء هذه الانتصارات لتمنح الجيش شرعية لحكم البلاد، والتصرف في مصر تصرف المالك فيما يملك، والحال كذلك فإن البعض ممن يرفضون الانقلاب، احتشدوا من أجل إثبات أنه لم يكن هناك نصر للجيش في هذه الحرب، وذلك لسحب البساط من تحت أقدام عبد الفتاح السيسي وأركان حكمه، وإثبات أنهم يفتقدون بالتالي للشرعية، والسيسي لم يخض حرباً في حياته!
الأمر من وجهة نظري، أبسط من هذا، فعندما يتعامل السيسي على أنه الوريث الشرعي للجيش الذي انتصر، فإنه يكون في حكم منتحل صفة الوريث، فالانتصار قام به الشعب المصري، والذين تحملوا من أفراده فترة تجنيد طويلة، والذي وجد أن عليه أن يختصم من قوته تحت بند "المجهود الحربي"، وتحت لافتة إعادة بناء الجيش، ثم إن المجندين كانوا ملح ميدان المواجهة في هذه الحرب، وإن كان الانتصار انجازاً حققته القوات المسلحة فهي لترد الاعتبار إلى نفسها بعد هزيمة سنة 1967، والتي كان أحد أسبابها هو قيادة الجيش غير المؤهلة لشيء ممثلة في "المشير" عبد الحكيم عامر، ولا يجوز القول إن الهزيمة كان السبب فيها هى القيادة السياسية، فلم تكن هناك قيادة سياسية بالمعنى المعروف، لأن هذه القيادة هى من الجيش، وهى التي استولت على الحكم في انقلاب الضباط في سنة 1952.
وإذا كان السيسي يصر على عملية الوراثة هذه، فهو وريث "عبد الحكيم عامر"، الصانع الثاني لهزيمة يونيو 1967، بعد "البكباشي" جمال عبد الناصر!
ما علينا، فقد رأي أنصار المخلوع أنه ما دام انتصار أكتوبر هو أساس الشرعية للسلطة القائمة، فإن جحا أولى بلحم ثوره، وأن أحد قيادات هذا الانتصار هو أولى به من جماعة عبد الفتاح السيسي، ولا يجوز الاستمرار في إقصائه إلى الآن. والبعض يصل به التطرف حد الاعتقاد، أن ما جرى في 25 يناير كان يستهدف إبعاد مبارك والوصول إلى هذه الحالة، التي يصبح فيها السيسي هو الرئيس، ومن هذا المنطلق فإن كثيرين من أنصار مبارك في نفوسهم غصة من الحكم الحالي، بل إن منهم من يتجرأ ويهاجم السيسي انحيازاً لمبارك، وبشكل يفوق هجوم أنصار الشرعية عليه، وهى ظاهرة أمكن لي رصدها، وذلك على عكس الشائع من أن أنصار مبارك، أو الدولة العميقة، مع السيسي!
"هيكل" كان قد حل الإشكال قبل ثورة يناير، في السخرية من الاستناد للضربة الجوية المنسوبة لمبارك، في تأكيد شرعيته في الحكم، وقال إن هذه الضربة عمل من أعمال الوظيفة!
الانشغال بمبارك ترف لا أملكه، وهو ما توصلت به مبكراً، عندما وجدت أن الثورة تتعرض لتحديات هائلة، لكن الزفة المنصوبة في هذا العام هى كالشيء الذي زاد عن حده فانقلب إلى ضده، وما اكتبه الآن هو كلمة أخيرة في هذا الملف!
حرب أكتوبر، ليست هى غزوة بدر التي اطلع الله على من شارك فيها وقال: "اعملوا ما شئتم أني قد غفرت لكم"، ومبارك نفسه هو من أقصى أبطال هذه الحرب، بعد أن اختزلها في الضربة الجوية، وهذه الضربة في شخصه الكريم، وقبل أن يصبح رئيساً كان انتصار حرب أكتوبر في تحطيم خط بارليف، وهو ما جرى إبعاده تماماً، فالبطل الأوحد هو مبارك، والانتصار التليد حققته الضربة الجوية، وعلى نحو يوحي بأنه كان يقود بنفسه أسراب الطائرات، وهذا غير صحيح، فقد كان في غرفة العمليات، عندما ارتقى الطيار عاطف السادات (شقيق الرئيس الراحل شهيدا، فضلاً عن أنه أمعن في إنزال العقاب على أحد قادة هذه الحرب وهو الفريق سعد الدين الشاذلي لأنه قال إن سلاح الطيران كان أضعف ما في حرب أكتوبر!
وفي الذكرى الأولى لانتصار أكتوبر بعد ثورة يناير، تجرأ قادة عسكريين وتحدثوا عن أنه لم يكن أكثر من مصدق على الخطة، مثل شهادة اللواء طيار سمير عزيز النائب الأسبق لرئيس القوات الجوية، كما روى اللواء طيار محمد زكي عكاشة في شهادته، أن مبارك ألغى الضربة الجوية الثانية فوقعت مذبحة الهليكوبتر، وهذا اللواء ينفي أي دور لمبارك في وضع خطة القوات الجوية، ويؤكد أنه مجرد مصدق عليها!
ومهما يكن فإن الإقصاء المقرون بالتزوير حدث على يد مبارك، وهو الذي أمر برفع صورة الفريق سعد الدين الشاذلي في غرفة عمليات الحرب، ووضع صورته مكانها، وهى الصورة التي علقت في كل المواقع العسكرية، دون أن نسمع همساً من قيادات الجيش ضد هذا التزوير الفاضح في تاريخ مصر العسكري على مدى ثلاثين عاما!
ولم يتوقف الأمر على التزوير، فمبارك وضع هذا القائد العسكري الفذ في السجن، بحكم صادر من القضاء العسكري، أصدره جنرالات بالجيش، لم يروا في محاكمة وإدانة أحد القيادات العظام لنصر أكتوبر ما يسيء لشرفهم العسكري، فقد كانوا يعملون في خدمة مبارك، والذي رفض العفو عنه، وكان من حقه العفو قانوناً.
وإذا كان السادات قد أقال أحد قيادات أكتوبر من منصب وزير الحربية وهو الفريق محمد عبد الغني الجمسي، فقد ظل الرجل في كل عصر مبارك وإلى أن واتته المنية يعيش مهمشاً، ويشكو ذل الحاجة، على النحو الذي رواه وزير الإسكان الأسبق المهندس حسب الله الكفراوي!
لقد روى الكفراوي، أن الجمسي جاء إلى مكتبه ليتوسط لديه لصالح مقاول صغير في عملية بناء، وصارحه بأنه سيحصل مقابل هذه الخدمة من "المقاول" على مبلغ مالي يعينه على نوائب الدهر، وقد دفعت النخوة الوزير للذهاب لمبارك وروى له الواقعة، مقترحاً تقديم الدولة مساعدة مالية للجمسي، فكانت الرسالة التي لا تخطيء العين دلالتها، أن عاد هذا القيادي العسكري إلى منزله فوجده وقد جرى تحطيمه بفعل فاعل، فاعتبرها رسالة من الرئاسة، بأن يلزم داره وقد فعل وطلب من الكفراوي أن ينسى طلبه بخصوص هذه المقاول!
وإذا كان التهميش، والإقصاء، والإذلال قد جرى للقادة الحقيقيين لنصر أكتوبر فقد جرى ما هو أكثر منه، لمن سطروا تاريخاً مجيداً فيها ، فالرقيب أول مجند محمد عبد العاطي عطية شرف، الشهير بعبد العاطي صائد الدبابات، انتهى به الحال صاحب محل صغير، يعيش على الكفاف، وقد مات بمرض بالكبد دون أن يجد ثمن العلاج، الذي توفره الدولة وفي الخارج للفنانات وللسياسيين!، وأمر به مبارك نفسه وهو الذي تحدث العالم عن بطولاته ولتمكنيه من تدمير 23 من دبابات العدو بمفرده!
إن شئت فقل إن حكم العسكر، حرص على إعلاء قدر من هم بلا قيمة حقيقية، في صفوف الضباط ومنذ عهد عبد الناصر، الذي كرم اللواء الدجوي حاكم غزة الذي وقع في أسر القوات الإسرائيلية، وكيف أنه كان يقف ذليلاً أمام الضابط الإسرائيلي، ويشيد بإسرائيل وبجيشها وإنسانيتها، وتمثل هذا التكريم في أن ناصر جعله يترأس المحكمة العسكرية التي حاكمت الإخوان المسلمين في سنة 1965!
والذين كانوا مقربين من السادات يعلمون أنه باختياره لمبارك لم يكن هذا على أساس أنه من أبطال أكتوبر وأنه بطل الضربة الجوية، فقد كان الأضعف مكانة وسمعة بين قواد أكتوبر، وكان أول من انتبه لوجوده والتقطه هو عبد الناصر لموقفين، من حكم كان يحشد حوله الصغار!
الموقف الأول: لأنه عُرض عليه الانضمام إلى تنظيم الضباط الأحرار وقد رفض جبناً.
والموقف الثاني: لأنه عندما ذهب الضباط وشبابهم بالذات لتهنئة اللواء محمد نجيب بمناسبة توليه رئاسة البلاد بعد حركة ضباط الجيش، وإذ صافحه الجميع بشكل طبيعي فإن شخصاً واحداً انحنى وقبل يد نجيب هو الضابط محمد حسني مبارك!
ما علينا، فعلى الذين يتحمسون لتكريم مبارك، باعتباره بطل من أبطال أكتوبر أن يقولوا لنا ولماذا لم ينددوا بسجن رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر، ونفيه خارج التاريخ؟، ولماذا لم نشاهد "وطنيتهم الرفيعة" إزاء تهميش محمد عبد الغني الجمسي؟، ولماذا لم يتحرك جنين الوطنية المستكين في أمعائهم الغليظة عندما كان ينشر عن الحالة المزرية لصائد الدبابات، ولماذا لم يدينوا من سجن، ومن همش ومن زور، ومن تجاهل أبطال أكتوبر!
إنها الوطنية الزائفة في أسوأ صورها!