كتاب عربي 21

المستفاد في لحظة انهيار النظام العربي

1300x600
أربعة عناوين رئيسة اختصرت المشهد العربي، في الأيام الأخيرة، وهي قانون "جاستا" الأمريكي، وحملة إبادة وتدمير حلب، وتغيير المناهج في عدد من البلاد العربية، ومشاركة وفود عربية، من بينها وفد رفيع من السلطة الفلسطينية، في تشييع بيريز، الرئيس الصهيوني الأسبق، وأحد مؤسسي الكيان الصهيوني، فضلا عن برقيات التعزية، ومشاعر التعاطف التي أبداها بعض المسؤولين العرب في مواقع التواصل الاجتماعي مع شخص بيريز.

وإذا كان ثمة من يرى في هذه العناوين، علامة قطعية على اكتمال الانحدار العربي، فإنها في الحقيقة علامة على انكشاف هذا الانحدار الذي كان قد بلغ القاع منذ زمن، ولم يعد يفعل النظام الرسمي العربي الآن فيه أكثر من الإعلان الصريح عن حقيقته، وقد كفّ عن الخجل من إظهار عوراته، وإن كان لن يعدم بالتأكيد من يدافع عنه، أو عن بعض أعضائه، لأنه ما كان للعجائب أن تنقضي!

كان ثمة من يعتقد منّا نحن الفلسطينيون، أن عجز النظام العربي تجاه قضيتنا، ناجم عن ضعفه مقابل الكيان الصهيوني، المحمي بالقوى الكبرى، التي أوجدته ثم ضمنت قوّته واستمراره، ولكن هذا العجز إزاء المأساة المفتوحة في حلب الآن، يؤكّد أن المعضلة كانت دائمًا بنيوية في متن هذا النظام وأساس وجوده، ويكفي أنه كان عاجزا دائما عن إدارة أزماته الكبرى، والتي كان من أكبر تجلياتها الاحتلال الأمريكي للعراق، وتسليمه لإيران.

وما كان لنظام ممعن في الفشل أن يستمر، ولذلك تحتّم عليه الانهيار الذي لم يبدأ مع الاحتلال الأمريكي للعراق، ولم ينته بالثورات العربية، فلقد كان انهيارًا طويلاً وبطيئًا أشبه بالمرض الخبيث، ولكنه ومنذ خمس سنوات أخذ يتحوّل إلى انهيار قاس ومدمّر، دون أن يعني هذا أن البصيرة سوف تنبثق بفعل الدمار القاسي في القلوب التي عميت في صدور ساسة هذا النظام، فقد ران عليها كل خبيث، وَحُرّمت عليها الصحوة، بعدما أُمهلت عقودا طويلة.

وحتى البؤس العربي الطويل الذي رافق القضية الفلسطينية من ضياعها وحتى لحظة الخزي الراهنة، فإنه لم يكن ضعفا ذاتيّا طبيعيّا ناجما عن اختلال موازين القوى وسوء الإدارة، بقدر ما كان جزءًا من بنية النظام العربي التي قامت على الأساس الاستعماري الذي خلق البيئة المُهيَئة لاستقبال "إسرائيل"، فلم تَفسح القوى الاستعمارية لهذا الكيان إلا بعد أكثر من 30 عامًا على الاستعمار البريطاني لفلسطين، وعلى وعد بلفور.

ولقد انتهى الأمر ببعض هذه الأنظمة إلى درجة الإمعان في محاولة علمنة المجتمعات والمجال العام، بحذف الآيات القرآنية من المناهج التعليمية، وعلى نحو عجيب، كالآية التي تقول "والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس" والتي لا تتضمن أي معنى قد يُشكل على العقل الخاضع للإرادة الاستعمارية، أو العقل الكاره لذاته، وهو ما يعني أنها نتيجة حتمية في لحظة انكشاف هائلة للأساس الذي قامت عليه هذه الأنظمة، بحيث لم يعد مستنكرا القول إنها تحارب دين شعوبها على الحقيقة!

وآل الأمر بحركة تحرر وطني، شكّلت لعقود وجه الثورة الفلسطينية المعاصرة، إلى أن تصير جزءًا من هذا النظام، وقد أعادت صياغة نفسها على مستوى الأساس والبنية والوظيفة لتكون على قلبه وصورته، بعدما حلمت قيادتها، وهي في أوج ثورتها، بأن تكون جزءا من هذا النظام الذي حاربها، وتآمر على قضيتها، أكثر مما حلمت بتحرير فلسطين، ومن ثم كانت أبلغ صور انحدارها المشاركة في جنازة بيريز!

ولا يُستبعد أن يكون قانون "جاستا" -في جانب من دوافع القائمين عليه- قد جاء بهدف استخدامه لابتزاز بعض الدول العربية والإسلامية، لتقديم تنازلات للنخب الأكثر صهينة في الإدارة الأمريكية، لاسيما في هذا الوقت الراهن، مع السعي المحموم للمنظومة الإقليمية العربية الأكثر ارتباطا بهذه النخب؛ لفرض قيادة فلسطينية بديلة، تقبل القيام على المشروع التصفوي الذي يُعدّ للقضية الفلسطينية، والذي بدا من ملامحه تقسيم المسجد الأقصى، وضمّ أراضي الضفة الغربية للكيان الصهيوني، مع البحث عن حلّ ما للسكان الذين سيجري عزلهم عن بعضهم داخل الكنتونات التي يعيشون فيها، مع تجريدهم من أي تمثيل سياسي يعبّر عن علاقتهم بفلسطين.

ولكن العبرة المباشرة من هذا القانون، أنه واحد من الأدلة المتكاثرة في الفترة الأخيرة، على فشل السياسات العربية، التي رهنت دورها، وأمّنت بالتالي وجودها، بالسقف الأمريكي، حتى وجدت نفسها أخيرًا وحيدة في العراء، بعدما ساهمت في إفشال كل المشاريع النهضوية أو التحررية العربية، من فلسطين إلى العراق إلى الثورات العربية القائمة، فضلا عن إهدارها موارد الأمة، حتى باتت على شفا أزمات اقتصادية طاحنة، وفقر تنموي في المجالات كافة.

في كل العناوين الأربعة هذه، سنجد فلسطين والكيان الصهيوني حاضرين، وعاملاً مشتركًا يصلح أن يكون أداة تحليل تعين على تفسير الأحداث.

لكن وبصرف النظر عن الجدل بين طرفي نقيض عربي، أحدهما يصرّ على قراءة الثورات العربية معزولة مطلقا عن القضية الفلسطينية، وآخر يجعل من القضية الفلسطينية سببا لنفي عوامل الحضور الذاتي والمحلي لتلك الثورات؛ فإنه لا سبيل لحسم القضايا الكبرى التي تستبطنها تلك العناوين، من تحرر وهوية وبناء ذات قوية مستقلة وإنجاز أهداف الثورات، إلا بانتهاء أجل النظام الإقليمي العربي، وإن اللحظة الحالية هي طبيعية من جهة حتمية انهيار هذا النظام، والدور المطلوب فيها هو تسريعها.

وحينها سيجد الجميع أن اقتلاع الكيان الصهيوني ضرورة لكل شيء نبيل، وشرط لإنجاز كل حلم مهما بدا صغيرا، فالنظام الإقليمي العربي، العاري جدًّا، ما زال غطاء يحمي هذه العقبة الكؤود، التي اسمها "إسرائيل".