ما الذي كان يمكن أن يخدم القضية
الفلسطينية أكثر، المشاركة العربية في جنازة
بيريز أم مقاطعة المناسبة بإعلان يشرح العرب فيه قضيتهم وموضوع خلافهم مع ما يمثله الرجل؟
خطر لي السؤال حين وجدت أن خمس دول عربية أوفدت ممثلين لها لحضور الجنازة، في حين عبر وزير خارجية دولة عربية سادسة عن حزنه لوفاة الرجل، ولم أصدق أن زعيما عربيا كان في نيويورك ذرف الدمع حين تلقى الخبر.
ولم أقتنع بالأسباب التي دعت بعض النشطاء العراقيين الأكراد في "دهوك" بإقامة مجلس عزاء تعبيرا عن حزنهم لما جرى، إذ أزعم أن ذلك كله كان خصما وليس إضافة.
وإن الذين شاركوا في المناسبة بصورة مباشرة أو غير مباشرة صغروا ولم يكبروا. لذلك قدرت كثيرا موقف النواب العرب في الكنيسيت (ممثلو فلسطين 48) الذين أعلنوا مقاطعتهم للجنازة، واحترمت ما قالته عايدة توما عضو الكنيسيت التي أعربت عن استغرابها إزاء توقع البعض مشاركتهم في جنازة الرجل الذي كرس حياته لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه.
أما الذي أشعرني بالإهانة حقا فقد كان تصريح وزير التعليم
الإسرائيلي وزعيم البيت اليهودي نفتالي بينيت، الذي أعرب فيه عن امتعاضه "وقرفه" من مصافحة الإسرائيليين الرسميين لأبي مازن حين رأس وفد السلطة المشارك، بدعوى أن الرجل يشجع على قتل الإسرائيليين(!).
حين ذهب العرب إلى الجنازة فإنهم لم يختلفوا كثيرا عن حالة الخزي والذل التي انتابت أهل القتيل فهرولوا للمشاركة في جنازة القاتل، تملقا لأهله وخشية بأسهم، لا يقولن أحد إنه البروتوكول وأصول اللياقة الدبلوماسية، لأننا بصدد حالة لا علاقة لها بالبروتوكول أو بالأعراف الدبلوماسية إذ نحن بإزاء رجل تلطخت يداه بالدم الفلسطيني والعربي طيلة خمسين عاما.
وما من كارثة حلت بالفلسطينيين أو جريمة ارتكبت بحق العرب إلا وكانت له يد فيها. صحيح أنه قام بأكثر من دور وارتدى أكثر من قناع، لكن قسماته الأساسية ووجهه الشرير لم يكن خافيا على أحد.
وإذا امتدحه أهله أو نجح في خداع كثيرين في العالم الغربي على الأقل، فلا ينبغي أن نخدع نحن فيه، لأن كل الأقنعة التي تخفي وراءها وكل الأدوار التي لعبها لا يمكن أن تنسي أي عربي أو فلسطيني شريف حقيقته أو سجل جرائمه.
لذلك، فمن حق ذلك العربي أو الفلسطيني أن يعبر عن تقززه من وقوف مسؤولين أو مبعوثين عرب في طوابير المعزين، ناسين أو متناسين سجل الرجل الحافل بالجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية في فلسطين والعالم العربي. ويعذر المرء في هذه الحالة حين يرى في أولئك المبعوثين العرب شهادات تعبر عن الاستخذاء والهزيمة التي يعيش العرب في ظلها الآن.
لو أن العرب قاطعوا الجنازة في لحظة إفاقة استدعت ما تبقى من النخوة، وانتهزوا الفرصة لكي يعلنوا على الملأ الأسباب التي دعتهم إلى ذلك، خصوصا ما تعلق منها بالجرائم التي ارتكبها بيريز في فلسطين ولبنان على الأقل، واستعرضوا الجهد من خلال التوحش الاستيطاني الذي بذله لعرقلة أي تسوية سياسية تستهدف إقامة دولة فلسطينية.
لو فعلوا ذلك لأحدثوا دويا عالميا يخدم القضية ولذكروا العالم بحقائقها التي يجري طمسها. لن يحرروا بذلك فلسطين حقا، لكنهم سينتهزون الفرصة لفضح جرائمها، فضلا عن أهميته في التنفيس عن حقيقة المشاعر العربية والفلسطينية والتقليل من الشعور بالمذلة والانكسار والإحباط الذي يسود العالم العربي.
أرجو ألا أكون مبالغا إذا قلت إن العرب الذين شاركوا في الجنازة، بمن فيهم وفد السلطة برئاسة أبو مازن، لم تشغلهم قضية فلسطين في ذهابهم وإيابهم، وإنما كان لكل منهم حساباته الخاصة التي لا علاقة لها بالقضية.
وأزعم في هذا الصدد أن أحدا منهم لو تذكر القضية لما ذهب أصلا. بالتالي فإن ذهابهم يظل بمثابة إدانة لهم ولمن يمثلون. وهذه ينبغي ألا تدعونا إلى اليأس بقدر ما تدعونا إلى المراهنة على غيرهم.
- ملحوظة: أعلن البراءة من الخطأ النحوي الذي ظهر في السطر الأول من عمود أمس الذي كان عنوانه "لا يستحق رثاء...". فقد بدأت النص بالقول: "ثمة سياسيون".. ولكن خطأ لم أعرف مصدره حولها إلى سياسيين.
وهو ما قد يبدو بسيطا في نظر البعض، لكنه أزعجني مع ذلك، ليس فقط لأن ما كتبته كان الإعراب الصحيح الذي أحرص عليه، ولكن أيضا لأنه لم يتبق لنا من العروبة سوى اللسان والعرق.
والأول إما مقطوع أو مشوه، والثاني حاله يدعو إلى الرثاء كما تعلم. لذا لزم التنويه.
(عن صحيفة الشرق القطرية)