يواجه الليبيون اليوم معضلة الانقسام بشكل غير مسبوق، وبما أن النخب السياسية والمدنية فشلت في حماية المسار الانتقالي رغم الإنجاز الانتخابي الذي حققته، فقد انتقلت المبادرة إلى المليشيات، ومن المليشيات إلى بقايا الجيش المنقسم، وبذلك فقدت
ليبيا الآن وجود سلطة معنوية وفاعلة على الأرض تكون قادرة على تجميع الشعب وتوحيد الدولة وبناء سلطة مركزية.
بسيطرة المشير خليفة
حفتر يوم 13 أيلول/ سبتمبر على منطقة الهلال النفطي بموانئها الأربعة، وهي المنطقة التي تشمل الثروة الرئيسية في ليبيا، يكون قد نجح في إعادة صياغة خارطة الصراع بين منطقتي الشرق والغرب، وبذلك اختلطت الأوراق من جديد، وأصبحت ليبيا بعد هذا التاريخ أبعد ما تكون عن الوحدة والتوحد.
لقد استغل حفتر انشغال حكومة الوفاق الوطني وبالخصوص كتائب مصراتة بمعركة سرت، وهي المعركة التي كلفت الكثير من الخسائر البشرية، ليقوم بعملية خاطفة وغير مكلفة عسكريا جعلت منه اللاعب الرئيسي المتحكم في الاقتصاد الليبي برمته، فمن يسيطر على آبار النفط يصبح الأقدر على التحكم في جزء كبير من المعادلات السياسية داخليا وفي علاقتها بالخارج، ولهذا السبب بالذات لم يتأخر رد الغربيين الذين سارعوا بإدانة العملية العسكرية التي أقدم عليها حفتر ومن وراءه، وهو ما جعله يحاول أن يطمئن الأطراف الدولية، وأن يخفف من حدة التداعيات السياسية للخطوة النوعية التي أنجزها على الأرض.
كان الصراع خلال المرحلة السابقة يدور حول الأرض وحول السلطة، أما اليوم فقد أصبح الصراع من أجل الثروة أي في سبيل ضمان شروط البقاء وتأمين المستقبل، ولذلك إذا لم تتغلب عوامل الحكمة والوعي والروح الوطنية فإن البلاد مقدمة على حرب أكثر ضراوة بين الشرق والغرب، لأنه لا يوجد استعداد للقبول بأن ينفرد أحد الطرفين بالتحكم في آبار النفط دون مشاركة الطرف الآخر. وهو أمر من شأنه أن يؤجج الحرب بين المناطق والقبائل وأصحاب المصالح والشبكات الخارجة عن القانون.
كما أن حرص الغربيين سيزداد على وضع أقدامهم داخل الأراضي الليبية، لأن سيطرة معسكر حفتر على الهلال النفطي من شأنه أن يفقدهم الدافع الرئيسي الذي جعلهم يساعدون على الإطاحة بنظام العقيد القذافي، وتركوا الشعب الليبي ضحية الحرب الأهلية والتآكل الداخلي والتشرذم المرضي.
أمام الغربيين اليوم اختياران. أكثرهما قبحا ومأساوية هو تعزيز سيناريو الحرب عبر تسليح حكومة الوفاق وتأهيل قواتها لمواجهة قوات حفتر، حتى يستنزف كل منهما الآخر في معارك لا تنتهي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حسابات الفرنسيين مثلا تختلف عن حسابات دول غربية أخرى، وهو ما كشفته حادثة سقوط المروحية العسكرية الفرنسية ومقتل بعض الجنود الذين كانوا على متنها لمساعدة قوات حفتر.
أما التوجه الثاني الذي يمكن أن تراهن عليه الدول الغربية والذي يعتبر الأقل كلفة هو أن تمارس الضغط على حفتر وعلى الجهات الداعمة له، وأن تمتنع عن شراء البترول من عنده من خلال منع فتح الموانئ للتصدير، وأن تصعد في درجة المقاطعة له ولبرلمان طبرق. وهو ما قد يدفعه نحو تليين مواقفه، وتجنب الغرور والشعور بالغلبة، وبالتالي الاقتناع بأن من مصلحته أيضا أن يحافظ على شعرة معاوية التي لا تزال تربطه بخصومه، وأن يترك باب المفاوضات مفتوحا في انتظار التوصل إلى تسوية سياسية متوازنة تخرج البلاد من مأزقها الراهن.
في انتظار ردود الفعل المتوقعة من هذا الطرف أو ذاك، المؤكد أن السيطرة على الهلال النفطي قد غيرت المشهد العسكري والسياسي، وأعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اتفاق الصخيرات. دائما العسكر هم الذين يغيرون الخرائط على الأرض مما يدفع بالسياسيين إلى مراجعة اختياراتهم في ضوء التضاريس الجديدة. فالحرب كما قيل هي استمرار للسياسة ولكن بأسلوب مختلف، كما يمكنها أن تصنع سياسات جديدة، وأن توفر المناخ لصعود قادة جدد يتولون تأثيث مرحلة مختلفة.
لن تعود ليبيا كما كانت عليه من قبل، وهو ما يقال حاليا عن العراق وسوريا واليمن. يبدو أن صيغة الدولة الوطنية الموحدة والجامعة قد انتهت بالنسبة لهذه البلدان الأربعة. لقد أطاحت " ثورات" ما سمي بالربيع العربي بهذه الدولة الوطنية، وحالت دون عودتها من جديد، على الأقل بنفس الشروط والآليات السابقة. وإذا كان لكل بلد حكايته ومساراته، فإن الواقع التاريخي يثبت أن ما يجري حاليا ليس بدون مقدمات، ولم يتم الوصول إليه بشكل فجائي وبين ليلة وضحاها. فتجربة القذافي كانت مؤلمة ولم تسمح للمجتمع الليبي بأن يبني مؤسسات قوية ودائمة. لهذا عندما انهار النظام انهارت معه الدولة التي لا تعني فقط أرضا وشعبا وتاريخا مشتركا، وإنما أيضا نظاما سياسيا يكون قادرا على توحيد تلك المقومات ويحقق الحد الأدنى من الأمن والتعايش.
لا نريد أن نسبق الأحداث أو نتنبأ بالمستقبل، لكن إذا انهارات حكومة الوفاق رغم كل العلل والألغام التي تعاني منها، فإن الغموض المطبق سيخيم من جديد ليس فقط على سكان ليبيا، ولكن أيضا على جيرانهم.