أثناء العدوان على غزة نهاية عام 2008، صدحت حناجر المتظاهرين
المصريين المتضامنين مع غزة بالهتاف (واحد اثنين
الجيش المصري فين)، وكانت هناك قناعة أن جيشنا المصري الموصوف بأنه "خير أجناد الأرض" سيتجاوب مع هتافات المتظاهرين، ليس بالضرورة بالتدخل عسكريا للدفاع عن غزة، لكن على الأقل بإظهار تبرمه من العدوان ومطالبة القيادة السياسية أن تتحرك لوقفه.
كانت هناك ثقة لدى عموم المصريين في جيشهم ووطنيته، وعقيدته العسكرية، وحين وقعت أحداث ثورة 25 يناير 2011، وانهارت الشرطة يوم جمعة الغضب (28 يناير) ونزل الجيش المصري إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين بدعوى الحماية والتأمين - كما زعموا وقتها - هتف الثوار أيضا "الجيش والشعب إيد واحدة"، وحين حاولت بعض الرموز الإسلامية واليسارية التنبيه لخطورة نوايا الجيش وقتها (أمثال الشيخ حازم أبو إسماعيل ومحمد البلتاجي والشباب الأناركي)، كانت الأغلبية – ولا أبرئ نفسي- تتصدى لهذه الرؤى - التي ثبتت صحتها ونعتذر الآن لأصحابها.
كانت الصدمة الكبرى في الجيش المصري بوقوع الانقلاب العسكري، ومن بعدها بتدخله لفض اعتصام
رابعة والنهضة إلى جانب الشرطة، وهو الذي وعد بعدم إطلاق رصاصاته ضد المصريين.
لا أحتاج لشهادة منظمات محلية أو دولية على استخدام ذخيرة الجيش ضدنا، وهي المخصصة بالأساس لمواجهة الأعداء، فقد كنت شاهدا وكدت أن أكون شهيدا حين أطلق علينا جنود الجيش زخات رصاصاتهم داخل أحد المساجد الذي تحول وقتها إلى مستشفى ميداني قرب نادي السكة الحديد ووزارة المالية، لقد مرت الرصاصة من فوقي بسنتيمترات لتستقر في جسد طبيب مجاور لي وترديه شهيدا.
رغم كل الجراح، استطاع الكثيرون وأنا واحد منهم أن يفرقوا بين الجيش في عمومه من ضباط وجنود في غالبيتهم مجرد منفذين لتعليمات لا يستطيعون ردها، وبين قيادات فاجرة مسكونة ومهووسة بحب السلطة لا تستطيع تركها، ولا التفريط فيما منحته لها من امتيازات غير شرعية ولو على جثث المصريين، وتدفع الجيش لتنفيذ مغامراتها ومطامعها.
صدمة رصاص الجيش في رابعة لم تشمل كل المصريين، بل وجدنا من المصريين من يغني لهم "تسلم الأيادي.. تسلم يا جيش بلادي"، التي أصبحت نشيدا وطنيا لمصر تحت حكم الانقلاب، ووجدنا من يحمل بيادات "أحذية" الضباط والجنود فوق رؤوسهم تعبيرا عن حبهم الشديد للجيش، هكذا نجح قادة الانقلاب في تقسيم الشعب المصري إلى شعبين، شعب يغني تسلم الأيادي وآخر يغني "تتشل الأيادي اللي بتقتل ولادي".
دار الزمن دورته ولم ينتظر كثيرا ليلحق الذين غنوا "تسلم الأيادي" بإخوانهم الذين غنوا "تتشل الأيادي"، حين أصبح الجميع يدفع ثمنا باهظا لفشل حكم الانقلاب، الذي وعد المصريين بالمن والسلوى والعسل المصطفى، وجعلهم في انتظار "بكرة تشوفوا مصر" و"مصر أد الدنيا"، فإذ بها تصبح "مسخرة" الدنيا، وإذ بالجيش المصري الذي كان يوصف بأنه "خير أجناد الأرض" أصبح يوصف سخرية واستهزاء بأنه "خير مرضعات الأرض" و"خير تجار الأرض"، و"خير بقالي الأرض"، إلخ.
لم تعد السخرية من الجيش مقتصرة على قسم من المصريين اكتوى برصاصه، بل إن السخرية الأفظع جاءت ممن غنوا ورقصوا للجيش وقادته بعد الانقلاب، والذين امتلأت صفحاتهم سخرية عقب تدخل الجيش لحل مشكلة حليب الأطفال التي بلغت ذروتها قبل عدة أيام ودفعت سيدات مصر البسيطات للتظاهر وقطع طريق الكورنيش.
حاول الجيش كما يقول المثل "أن يكحلها فأعماها" ذلك أن تدخله السريع جدا وتوفيره لكميات كبيرة من الألبان في زمن قياسي - والذي أراد أن يحقق به كسبا شعبيا -، أثبت للمصريين أن قادة العسكر هم من صنعوا الأزمة ليستعيدوا بها شعبيتهم المنهارة، إذ كيف يمكن توفير هذه الكميات الضخمة في هذا الوقت القياسي إذا لم يكن العسكر قد أعدوا العدة مبكرا، وخططوا لهذه الأزمة على أمل أن يستفيدوا منها شعبيا وماديا.
إن رد الفعل الشعبي على ما فعله قادة العسكر في قضية حليب الأطفال لا ينبغي أن يتوقف عند حدود السخرية، بل ينبغي ملاحقتهم قضائيا بتهمة التسبب في قتل وتجويع أطفال مصر، وقد ثبت يقينا أن هذه المؤامرة على أطفال مصر تمتد لأكثر من عام حين سحبت قيادة الانقلاب عملية استيراد حليب الأطفال من الشركة المصرية للألبان ومنحتها للمخابرات بالأمر المباشر، وهو ما دفع الشركة الوطنية قبل عام لنشر استغاثة بالصحف للسيسي تطالبه بالتدخل، وهي لا تعلم أنه هو من قام بالجرم.
أغلب الظن أن كل أنصار الشرعية ورافضي الانقلاب لو أنفقوا ما في جيوبهم جميعا ما استطاعوا أن يفعلوا بالجيش كما فعل به السيسي وعصابته، فهو الذي وضع الجيش موضع خصومة مع جزء كبير من الشعب عقب الانقلاب، وعقب فض رابعة، وهو الذي وضعه موضع السخرية والتندر حين أبعده عن مهامه الطبيعية في حفظ وحماية الحدود والثغور إلى حمايه مكاسب الجنرالات في الداخل، وتغوله على كل مناحي الاقتصاد، فمن طرق وجسور، إلى عقارات ومقاولات، إلى كهرباء وطاقة، إلى إعلام وتعليم، إلى صحة ونظافة، إلى زراعة وصناعة، إلى سياحة وترفيه، إلى أسمدة ومستحضرات ومكرونة وجبنة ولحمة وبسكويت وحتى حفلات رقص شرقي، وهي أنشطة تختص بها الوزارات والهيئات المدنية والشركات العامة والخاصة المحلية وحتى الاستثمارات الأجنبية، وهي - فوق أنها ليست من مهام الجيش أصلا - فإنها ليست في مقدوره، وبهذا التغول يضع السيسي وعصابته الجيش في مواجهة مباشرة مع عموم الشعب الذي سيهتف عند كل أزمة داخلية وليست خارجية "واحد إثنين الجيش المصري فين"!.