قضايا وآراء

القرآن في عصر الصورة

1300x600
كان التحدي الأكبر للعرب بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أنه أتى بكلام يعجزون عن الإتيان بمثله وهم أساطين اللغة وملوك البيان. فقد كانوا يقيمون أسواقا للشعر ويفاخرون بقدراتهم البلاغية والخطابية حتى جاءتهم آيات لم يسمعوا مثلها من قبل. فلا هي شعر معروف أو نثر مألوف، إنما جنس كلامي جديد يحمل معاني مختلفة تمس ما ألفوه من عقائد ومعاملات وتستخدم كلماتهم وحروفهم ذاتها. وهم إذ أنكروا النبوة والرسالة في بداية الدعوة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يحاججوا القرآن أو أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فكانت أزمة كاشفة لهم أمام أنفسهم قبل أن تكون أمام غيرهم. وكانوا في الحقيقة يعرفون قيمة هذا النص المعجز ويسلمون بقدرته المتجاوزة عن ما وجدوا عليه آباءهم، فما كان منهم سوى تصنيفه كسحر ونهيان الناس عن سماعه كي لا يفتنهم.

وهنا نتحدث عن آيات مبينات قليلات نزلت في صدر الإسلام في مرحلته المكية، وليس عن كتاب كامل كالذي بين أيدينا الآن. فكانت هذه الأزمة مع بضع آيات، فما بالنا لو كان القرآن الكريم كاملا أمامهم، ربما كان الأمر أشد بأسا عليهم. وفي تلك المرحلة، كانت تتنزل آيات تأمر بالجهاد ولم يكن قد أذن للمسلمين وقتها بالقتال حين قال تعالى: “وجاهدهم به جهادا كبيرا.” قاصدا بذلك القرآن. ووصف الجهاد بالكبير لم يذكر في مواطن آيات القتال، وإنما جاء واصفا للقرآن كسلاح ثقافي مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ناحية أخرى كانت القدرات اللغوية للذين دخلوا في الإسلام كبيرة بحكم البيئة والثقافة مما ساعدهم على تذوق آياته حيث سهل عليهم هضم معانيه ونفاذها إلى قلوبهم فنقلتهم نقلة ثقافية وحضارية كبرى في زمن قياسي. هذا المستوى من اللغة غير موجود الآن في معظم البلدان العربية الآن ناهيك عن غير الناطقين بها من المسلمين وهم أكبر عددا من العرب أو المتحدثين بلغات آخري من غير المسلمين الذين يتوجه إليهم الخطاب القرآني والرسالة المحمدية. وقد تبدل الحال وساد عصر جديد للصورة ووسائل نقلها وإقبال الناس عليها يستقون منها أخبارهم ومعلوماتهم.

وقد دارت معظم الدراسات القرآنية قديما وحديثا في فلك الجمال البياني والإعجاز البلاغي واللغوي للقرآن ولم يتجاوز هذا للاهتمام بالدراسات الدرامية والفنية مثلا. والدراما هنا نوع من القصص يصلح للتمثيل في السينما أو المسرح مثلا ومرت بعدة مراحل ولها مجال نقد ودراسة وأداء. 

والقرآن مليء بأحسن القصص الذي يصلح مادة استكشافية هامة في مجال الدراما والسينما والمسرح. وهناك بعض الجهود القليلة في هذا الشأن منها محاولة الأكاديمي العراقي الدكتور جمال شاكر البدري في كتابه "فن السيناريو في قصص القرآن" الذي استخدم أحدث تقنيات كتابة السيناريو حديثا وطبقها على القصص القرآني، وخرج بنتائج مذهلة من ناحية شكل الشخصيات والبنية البصرية والسمعية وطريقة المونتاج وترتيب الأحداث وحوار الأشخاص. بل إنه وضع سورة مثل سورة يوسف في جدول بناء السيناريو السينمائي لنكتشف أنها مبنية بنمط بصري وسمعي فريد وكأنها نص سينمائي من حيث ترتيب المشاهد والانتقال بين الليل والنهار والمشاهد الداخلية والخارجية، بخلاف قصة لقمان ذات البناء المسرحي والتي وضعها أيضا في جدول بناء سيناريو مسرحي.

وربما لا يزال هذا الجهد المحدود في الإطار البحثي النظري بخلاف السينما الإيرانية التي حاول مخرجوها استخدام القرآن في الأعمال السينمائية؛ سواء من ناحية تصوير القصص أو المفاهيم، حتى أضحى هناك ما يسمى بالفيلم القرآني والسينما القرآنية في إيران. وهناك عدة دراسات سينمائية أكاديمية في جامعات غربية تتحدث عن تأثير القرآن في السينما الإيرانية. لكن يقف الحاجز اللغوي فضلا عن الحاجز السياسي والمذهبي بين العرب وبين الاستفادة والتفاعل مع مثل هذه المحاولات الفنية في إيران. وهناك أيضا بعض المحاولات القليلة التي تعتمد على تعليم الأطفال القرآن عن طريق الصور وألعاب الليغو بدلا من طرق التحفيظ التقليدية التي تعتمد على التكرار وقوة الذاكرة وليس الشرح والإفهام. 

إن القرآن الكريم يعد كنزا معرفيا قادرا على التفاعل مع المستجدات الحياتية، وهو نص قابل لإعادة الاكتشاف من خلال أدوات متعددة شريطة أن يتم هذا وفق منهجية علمية لاستخراج كنوزه. والأمر ليس محصورا في الإطار اللغوي الظاهر، بل يمكن أن يتعداه إلى نطاق الصورة وهو أمر ضروري في عصر الصورة حاليا.