بتأثير هزيل وبمحصول من الميداليات أكثر هُزالا وضعفا تعكس الألعاب الأولمبية وهنا حضاريا كبيرا تعاني منه أمة العرب في أعرق المنافسات الرياضية حيث يتنافس الرجال والنساء على المعدن الثمين ورفع راية أوطانهم بين الأمم. الميدان الأولمبي ورغم كل التجاوزات التي تتخلله كما هو حال كل الميادين الرياضية الأخرى حيث ورم الفساد والرشاوى والمنشطات والغش يتربص بالجميع فإنه يبقى أكثر المجالات الحضارية نبلا من حيث التنافس الجسدي والذهني بين الدول.
العرس الأولمبي يتجاوز رمزية الفوز والخسارة ليؤشر على مقياس فريد من نوعه لا هو بالعسكري ولا هو بالاقتصادي ولا هو بالاجتماعي ولا هو بالعلمي ... بل هو كل هذا معا. قد يذكر المضمار الأولمبي بصراع الفرسان قديما وبنزال الأبطال في رمزيته الأسطورية عند الإغريق أو في رمزيته العربية الإسلامية في فن المنازلات لكنه يبقى اليوم من أكثر المجالات التنافسية دفعا للفساد بكل أنواعه.
الأمم الكبرى تحرص على هذه المنافسة الدولية حرصها على سيادة مجالها الحيوي بأن تحافظ على المراتب المتقدمة في المنازلات الرياضية وهو ما جعل من الولايات المتحدة مثلا حريفا رسميا للمنصب الأول من الميداليات منذ سنوات. بل كانت فترة الحرب الباردة مسرحا للنزال الصامت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا قبل أن يستيقظ التنين الصيني ويشرع في حصد الذهب والفضة حصده للمراتب الاقتصادية الأولى.
العرب يساهمون بشكل هزيل وهزيل جدا مقارنة مع حجمهم البشري من جهة ومقارنة بعدد الدول التي تمثلهم ثم مقارنة بالإمكانيات المادية الهائلة التي تزخر بها دولهم. بل إن ميدالية ذهبية واحدة قادرة على أن تشغل الرأي العام العربي لسنوات بسبب الضنك الذي نعيشه وبسبب عطشنا الصحراوي للفوز والانتصار بعد سنوات القحط والهزيمة التي لا تزال تضرب عميقا في الوعي الجمعي العربي. الوعي العربي والعقل المحرك له مسكون بالهزيمة ومريض بالانكسار إلى حدّ عطّل قدرته على الإبداع وحتى على النهوض والخروج من حالة الانطواء التي يعيشها.
فكيف يمكن أن نفسر عجز مجموعة بشرية تقارب نصف مليار نسمة ـ وبإمكانيات مادية هائلة ـ عن تحقيق حدّ أدنى من النجاح الأولمبي وتجسيد حلم شعوب بأسرها للفوز بميدالية ذهبية واحدة؟ أين ذهبت كل الأموال من المليارات التي تصرف على الشأن الرياضي في الدول العربية؟ لماذا لا يستقيل مسؤول رياضي عربي واحد بسبب الفشل الذريع في الأولمبياد مثلا؟ لماذا لا يحاسب الوزير والمسؤول في الدول العربية على نتائج وزارته الكارثية في التظاهرات الكبرى؟ ماذا نفعل بآلاف المنشآت الرياضية وبكل المعدات إذا كانت غير قادرة على انتزاع الفضة أو البرونز لكي لا نقول الذهب في المنازعات الدولية؟
الجواب سهل وسهل جدا ولا يحتاج إلى فلسفة ولا إلى مساحيق. سبب هزالنا الرياضي ـ هو كسبب ضعفنا في بقية المجالات ـ وهو استشراء الفساد في القطاع الرياضي بشكل كبير. لا نقصد بالفساد الجانب المالي فقط فهذا أمر هيّن لكن الفساد هو انعدام الكفاءات المسيرة وانعدام الخطط الفعالة والحقيقية من أجل تحقيق مردودية ناجعة في القطاع الرياضي.
المحابات والقرابة والولاءات الحزبية والسياسية والعائلية والقبلية وحتى الطائفية تلعب في دولنا العربية دورا مركزيا في تحديد المسؤول الساهر على القطاع الرياضي وعلى أحلام الشعوب بتحقيق الفوز والانتصار. هذه الولاءات هي في نظرنا الوباء الكبير الذي يضرب قطاع الرياضة عند العرب خاصة بعد أن تحولت قطاعات رياضية كاملة إلى ملكيات عائلية وإلى مجال لفرض النفوذ الحزبي والسياسي لهذا الطرف أو ذاك.
لكن من جهة أخرى لسائل أن يسأل كيف نجحت أنظمة استبدادية شمولية في تحقيق نتائج رياضية باهرة مثل كوبا وكوريا الشمالية والصين الشعبية... وغيرها. أليس للالتزام وللانضباط وثقافة العمل والتحدي دور كبير في صقل الأجيال وفي صناعة الأبطال؟ هل يمكن أن يُصنع الأبطال في بلد الفساد أو في بلد الرفاه؟
الجواب هو طبعا: لا، لأن المسألة لا تتعلق فقط بالإمكانيات أو بالمعدات وإنما تتعلق بصناعة الإنسان نفسه وهو الوحيد القادر على خطف الذهب أو الفضة. المسألة الأساسية تتعلق بالتربية والتعليم أساسا سواء في المدرسة أو في العائلة أو في المحيط العام للطفل وهي روافد تدفع نحو المثابرة ونحو التحدي ونحو تجاوز الذات بشكل يؤسس للفعل الإنساني المتفوق. ثم في مرحلة ثانية تأتي مسألة الانتقاء ثم التأطير والإحاطة بالطاقات المتميزة وصقلها ووضعها على المسار المؤدي إلى النجاح والفوز.
هذا ما تفعله الأمم المتقدمة، أما في مزارعنا العربية الواسعة فالعكس هو ما يحدث عندما تُطارد الكفاءات وتُهجّر الطاقات ويُزرع اليأس في كل مكان بدءا بالأسرة مرورا بالمدرسة وصولا إلى المحيط العام.
إن صناعة الإنسان هي أهم تحديات المنطقة العربية وهي مسألة لا تقتصر على الرفاه فقط وعلى توفر الإمكانيات المادية بل تتجاوز ذلك إلى التربية والأسرة إلى تحقيق شروط العدل والحرية بما هي أسمى شروط الوجود البشري على الإطلاق.
محمد هنيد