تتمتع معركة
حلب بأهمية تاريخية استثنائية في مسار الثورة السورية، وتكتسي بدلالات مادية ورمزية مكثفة، وتتوافر على أهداف استراتيجية عميقة. فخسارة حلب تشكل نقطة تحول في ديناميكية الصراع، وتعني نجاح الجيش السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين ومليشياتهم الشيعية؛ بالسيطرة على ممر إعزاز، والتمكن من قطع المنافذ الشمالية بين مدينة حلب وتركيا، وهي عملية بدأت منذ 2 شباط/ فبراير 2016، بمشاركة قوات شيعية موالية للنظام في بلدتي نبل والزهراء وعناصر من "حزب الله" اللبناني، ومليشيات شيعية مدعومة من إيران أمثال "كتائب بدر" العراقية، ومليشيا "الدفاع الوطني" السورية المحلية، وفي ذات الوقت شاركت قوات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي المتعاونة مع الجيش السوري بمحاولة الإطباق على إعزاز ومحاصرة فصائل المعارضة.
عندما تدخلت روسيا في ديناميكية الصراع السوري منذ أيلول/ سبتمبر 2015، عقب تفاهمات مع الولايات المتحدة، شكلت حلب إحدى نقاط الخلاف. فالولايات المتحدة ركزت استراتيجيتها على القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وخصصت مواردها العسكرية والسياسية والمالية على استقطاب قوى معتدلة لاستدخالها في الحرب ضد الدولة الإسلامية. أما روسيا فقد تبنت استراتيجية تقوم على حماية المنطقة العلوية الساحلية، وتعزيز موقع الأسد، ودحر قوات المعارضة المسلحة عن المدن الكبرى، كحمص وحماة واللاذقية وحلب ودمشق، وقطع خطوط إمدادها من الحدود التركية.
على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أهداف الاستراتيجية الأمريكية والروسية في الصراع السوري، إلا أنهما توصلا إلى تفاهمات أساسية تفضي إلى القضاء على الحركات الموسومة أمميا بـ"الإرهاب"، ويتعاون الطرفان مع اختلاف الأولويات، بحيث تتصدى أمريكا لتنظيم الدولة الإسلامية وحلفائه، وتحارب روسيا جبهة النصرة وحلفائها، وذلك بالابتعاد عن استهداف قوى المعارضة المسلحة الموصوفة بالاعتدال، والتي تقبل الانخراط في الحرب ضد الدولة والنصرة، وتؤمن بعملية سياسية مع نظام الأسد. وقد تبلورت التفاهمات عبر استراتيجية المفاوضات السياسية والهدن العسكرية؛ التي دخلت حيّز التنفيذ في 27 شباط/ فبراير 2016، على أساس تثبيت وقف إطلاق النار وكافة الأعمال العدائية، بالتزامن مع استئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق الذي نص عليه القرار 2254.
لم تكن لعبة المفاوضات والهدن سوى حيلة أمريكية روسية للتخلص من تنظيم الدولة الإسلامية والنصرة، كمقدمة ضرورية للانقضاض على كافة أطياف المعارضة المسلحة التي ترفض الدخول في صراع مسلح مع الدولة والنصرة. وبدا واضحا منذ البداية أن الخطة تستند إلى شن حملة عسكرية واسعة مزدوجة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وحملة مماثلة تشنها روسيا وحلفائها من جهة أخرى للإطباق على الأطراف المعارضة كافة، تكون فيها حلب نقطة الالتقاء.
في هذا السياق، أدركت
الحركات الجهادية السنيّة موقعها كوقود لحرب بالوكالة، سرعان ما ستلتهمها، الأمر الذي دفع الفصيل الجهادي الأبرز، جبهة النصرة، إلى نزع ذريعة الإرهاب ومسألة الارتباط بتنظيم القاعدة في 28 تموز/ يوليو 2016، ليعلن عن إلغاء العمل باسم "جبهة النصرة لأهل الشام"، وتشكيل كيان جديد يحمل اسم "جبهة فتح الشام". وكانت دوافع النصرة تستند إلى قراءة للوضع الميداني السوري وتعقيداته عقب التدخل الروسي، والتفاهمات الأمريكية الروسية، وهي مبادرة موجهة بالأساس للفصائل الجهادية السورية، وفي مقدمتها حركة أحرار الشام والقوى الحليفة المشكلة لـ"جيش الفتح"، والذي جاء تشكيله بدعم إقليمي وتفاهمات تركية قطرية سعودية في 24 آذار/ مارس 2015، ويضم جبهة النصرة، وأحرار الشام، وجند الأقصى، وجيش
السنة، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام.
مع تصاعد الحملة الروسية الإيرانية السورية وبروز مخاطر التفاهمات الأمريكية الروسية، تنامت مشاعر الغضب لدى الفصائل الجهادية السنيّة، وأخذت تعيد النظر في طبيعة المخاطر. وقد جرت محاولات عديدة للتوحد. ففي كانون الثاني/ يناير 2016 طرحت النصرة مبادرة للتوحد مع الفصائل الجهادية كي تتمكن من مقاومة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وتضمنت مبادرة الجولاني عدة نقاط، من أبرزها: تحكيم الشريعة، ورفض العملية السياسة، وحماية المهاجرين، وتوحيد الإمارة والقضاء، الأمر الذي تحقق في عملية فتح حلب التي أعادت الروابط بين الجهاديين على ما كانت عليه بداية الثورة السورية، عندما كانت المسافات الفاصلة بين الفصائل المسلحة ضيقة جدا، وتتمتع بدعم الائتلافات السياسية السورية دون تحفظ، ودعم الدول الإقليمية من مجموعة أصدقاء سورية دون تحفظ.
لا جدال بأن عمليات فتح حلب تقودها جبهة النصرة (جبهة فتح حلب) وحلفاؤها الاستراتيجيون من المقاتلين الأجانب في جبهة أنصار الدين، كالحزب التركستاني وغيرهم من الأوزبك والإيغور وجند الأقصى، إلى جانب حركة أحرار الشام وفيلق الشام، وهي فصائل مقربة من جماعة الإخوان المسلمين، وحركة نور الدين زنكي وجيش الفاتحين، على الرغم من حضور تسمية "جيش الفتح" وفصائل الجيش الحر وغيرهم من فصائل الثوار. ولا شك أن تلك الفصائل لم تتمكن من عمل أي اختراق حقيقي دون جهاديي جبهة النصرة منذ فترة بعيدة، وعبر ائتلاف جيش الفتح، رغم الحصول على دعم إقليمي.
معركة حلب تعيد إحياء الجهادية السورية السنيّة دون تحفظات. فقد تخلت عن حذرها ودخلت سياقات مادية ورمزية صريحة دون الالتفات إلى تحسين صورتها الدولية والإقليمية، فضلا عن تحصيل رضى المعارضة السياسية، حيث أطلقت فصائل المعارضة في حلب على المرحلة الرابعة من معركتها ملحمة حلب الكبرى الهادفة إلى السيطرة على "كلية المدفعية" تسمية "غزوة الشهيد إبراهيم اليوسف"، وهي تسمية تختزن دلالات تاريخية ورمزية عميقة، إذ يرتبط اسم النقيب إبراهيم اليوسف بحادثة "مدرسة المدفعية" الشهيرة عام 1979، وهي الفترة التي شهدت صراعاً مسلحاً بين تنظيم الطليعة المقاتلة (الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين)، وبين نظام البعث في
سوريا. فحينها نفذ اليوسف ما وصف بـ"المجزرة" بحق طلاب ضباط علويين ليطارد بعدها من قبل النظام إلى أن يقتل في العام 1980 في مدينة حلب.
خلاصة القول؛ أن ثمة سردية جهادية سنيّة عربية يعاد تأسيسها في حلب، تتجاوز التفاهمات الأمريكية الروسية والمحاذير الإقليمية للدول السنيّة. فقد أفضت ديناميات الصراع السوري إلى دعم وإسناد هيمنة المكون الأقلوي الديني الشيعي والعلوي والإثني الكردي، وتحجيم دور المكون الأكثري العربي السني، تحت ذريعة تأسيس دولة مدنية ديمقراطية وحماية الأقليات. لكن السؤال: هل ستصمد السردية الجهادية السنيّة الجديدة في سوريا؟ أم أنها ستتفكك كما حدث في عراق ما بعد الاحتلال وتتحلل إلى توجهات براغماتية مصلحية وحركات جهادية أشد راديكالية، كتنظيم الدولة الإسلامية؟ باعتقادي أن ما تحقق في حلب في سياق رقعة الشطرنج الكبرى لن يجلب للعرب السنة أي مكاسب استراتيجية، وستجد السردية الجهادية نفسها مطاردة في سياق اللعبة الإرهابوية السنيّة الكبرى.