كان الناس في الماضي القريب يستندون إلى الإعلام التقليدي لمعرفة ما يدور في أروقة السياسة وعالم المشاهير وغيرهم.
وإن نطق السياسيون أقوالا غير حميدة، وقاموا بحركات أو أعمال غير مقبولة، قلما تداولها الناس حتى وإن نقلتها الصحافة.
وظل عالم السياسة تكتنفه السرية والغموض، رغم دخول الإعلام التقليدي الثورة الرقمية من أوسع أبوابها.
مقالة طويلة وعريضة حتى لو احتلت الصفحة الرئيسة في جريدة مثل "نيويورك تايمز" الشهيرة ربما لن يكترث لها الناس كثيرا، رغم أهميتها وحساسيتها.
أما اليوم، إن اقتبس هاو مدونة صغيرة منها لا تتجاوز 140 حرفا، فإنها قد تشعل العالم ضجيجا وتجذب انتباه الساسة وأصحاب الشأن.
لم يكن للحرف والكلمة مثل هذا التأثير كما هو اليوم. تصور الناس أنه بمقدم الثورة الرقمية وطاقاتها الهائلة المتيسرة والرخيصة للتصوير بأشكاله المختلفة والإرسال والتسلّم دون عناء يذكر، سيضمر دور الحرف والكلمة.
بيد أننا اليوم أمام ثورة اجتماعية كبيرة ومؤثرة جدا، قوامها 140 حرفا وحسب. وهذه الحروف يعشقها اليوم الكل تقريبا من الإنسان العادي إلى الناس المتنفذين في المجتمع.
ونرى اليوم مثلا مرشحا لرئاسة الولايات المتحدة -وقد يحصل على المنصب ويصبح أقوى رجل في العالم- يغض طرفه عن الإعلام التقليدي، ويلتجئ إلى "تويتر"، واحدة من أشهر شبكات ووسائل التواصل الاجتماعي، لإيصال رسالته.
دونالد ترامب -المشهود له لغته التي قد تهبط إلى استخدام تعابير بذيئة وعنصرية سمجة- يشعل الإعلام ويحرك الناس في الدنيا، من خلال لجوئه إلى خاصية التدوين المصغر "تويتر"، الذي فيه لا يزيد حجم كل تغريدة على 140 حرفا.
فهو اليوم لا يحتاج إلى عشرات أو ربما مئات الملايين من الدولارات لإيصال صوته للإعلام ومن خلاله للعالم.
وما نلاحظه اليوم من ظاهرة في التواصل والإعلام ما كان لنا حتى أن نحلم به قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن.
اليوم الأجندة الإعلامية يحددها "تويتر" وحروفه الـ140 وليس الإعلام التقليدي الذي يهرع إلى هذه المدونة المصغرة التي تقرر مساراته.
وذهبت أغلب موازين الموضوعية والنزاهة والكياسة وأخلاق الكتابة أدراج الريح.
"تويتر" وحروفه الـ140 سمحت للناس أن يتنفسوا بالطريقة التي يريدونها دون خشية أو رقيب ودون الالتزام بمعايير النزاهة.
كان الناس في الماضي لا يكترثون للتوصيفات الخطابية، سلبية أم إيجابية، التي كانت غائرة في بطون الكتب أو التي كان الإعلام التقليدي يستخدمها من حين إلى آخر.
اليوم كل مجموعة بشرية من حيث الدين واللون والمذهب والعنصر والجنس والميول بشتى أصنافها تنزل إلى ساحة "تويتر"، وتجتر ما لم ينزل الله به من سلطان في حق المختلف.
وصرنا اليوم نعرف، لا بل نردد ونكرر نطقا وكتابة، التوصيفات الخطابية السلبية في حق غيرنا والإيجابية في حقنا، دون أن نعرف أو نعير أي أهمية إلى الدور الكبير الذي يقوم به الحرف والكلمة في تقرير وجهتنا وتشكيل واقعنا الاجتماعي.
إننا أمام ثورة وقودها الحرف والكلمة ووسيلتها "تويتر" ـــ ثورة لا تحتاج إلى جنود مدججين بالسلاح ولا إلى دبابات وطائرات.
ننسى أننا عندما نقرأ أو نسمع أو نتابع أو نستخدم الإعلام -واليوم بشكله التواصلي- أننا نقرر لأنفسنا من نحن وأي بشر سنكون.
"الكلمة" أكثر حدا من السيف. الحروف الـ140 التي تتشكل منها تغريدات "تويتر" هي التي تقرر اليوم ما سيكتبه الإعلاميون والصحافيون، وليس العكس.
في السابق، كان الصحافي والإعلامي يضع الأجندة. اليوم الناس في "تويتر" من خلال تجييشهم لهذه الفكرة أو تلك يقررون لنا ما نقرأه.
صرنا اليوم أكثر التصاقا بشاشة أجهزتنا الرقمية الصغيرة من شاشة التلفزيون أو صفحات الجريدة أو صوت المذياع.
الناس -ومعهم الإعلام التقليدي- يهرعون إلى تغريدة يكتبها دونالد ترامب أو غيره من مستخدمي "تويتر"، وقد لا يكترثون كثيرا لخطبة مليئة بالحكم والدروس من خلال الإعلام التقليدي.
و"تويتر" يؤمن لنا مساحة كبيرة لا نهاية لها للشهرة والتواصل مع الآخرين. وإن أردت أن تجيش الناس وتستقطب اهتمامهم ادخل في معركة فكرية أو مذهبية أو دينية أو أي معركة خطابية أخرى مع الآخرين.
وفي هذا لا يختلف الناس مهما كانت مناصبهم وميولهم وجنسهم ولونهم.
بيد أنه عليك الحذر. هناك في التواصل الاجتماعي من قد يجرك إلى درك لا تريده، ولكن سرعان ما تقع في فخه وترى أنك نزلت إلى مستوى لم ترغب فيه أبدا.
المشكلة هي أن الطرف الآخر لا يهمه ما تقذف في وجهه من كلمات من العيار الثقيل. كلما نزلت إلى مستواه جرك إلى درك أسفل منه.
وفي الحرب الكلامية هذه تنشر الناس غسيلها من حيث لا تدري، ويقفز الإعلام على ما يراه مناسبا للنشر، ويجعل منه قصة.
لم يكن هناك مصدر متاح دون عناء وتكلفة للإعلام التقليدي، مثل "تويتر"، إلى درجة أن وكالة كبيرة مثل "رويترز" تدخل مراسليها وصحافييها اليوم في دورات مكثفة في كيفية التعامل مع حروفه الـ140.
الاقتصادية السعودية