نحن في زمن تخاض فيه حروب الإبادة على الهواء مباشرة، وبعلم مسبق، وربما موافقة رسمية من القوى التي تدّعي أنها مسؤولة عن أمن العالم وضامنة لاستقراره وسلمه، بل إن ذلك يصاغ ضمن وثائق تسمى تفاهمات دولية، فيما العالم يتأبط شرعة حقوق الإنسان ومبدأ الحماية الجماعية ويدّعي أنه يعمل بهديهما ويجهد في تطبيق نواميسهما.
ما يحصل في حلب نموذج صارخ عمّا آلت إليه السياسات الدولية وتطبيقاتها تجاه الشعوب، حيث يجري حصار المدينة ووضع أكثر من نصف مليون إنسان في دائرة خطر الإبادة، على مرأى ومسمع العالم كله، بل إن العالم كان على علم مسبق وكان يراقب يوم بيوم الإجراءات التي تقوم بها كل من إيران وروسيا من استقدام الجيوش والأسلحة وإجراء الترتيبات اللوجستية والعسكرية للقيام بهذا الأمر، ولم تخف طهران وموسكو نيتهما في ارتكاب جريمة العصر، بذريعة وجود تنظيمات تعتبرها "إرهابية"، بما يبرر لهما استخدام كل الوسائل والأدوات التي بحوزتهما.
يغمض العالم عينيه قصداً، ويتلهى عن المذبحة بإجراء حوارات فارغة مع روسيا يعرف الجميع عدم جواها أو جديتها، ففي حين يلهث الأمريكيون في تقطيع الوقت وتمرير المدة المتبقية من رئاسة باراك أوباما بسلام وهدوء، تتلذّذ روسيا من كونها استعادت شيئا من الاحترام الدولي وباتت طرفاً لا غنى عنه في صنع معادلات التوازن والقوة في العالم، حتى لو كان ثمن ذلك إجراء عمليات إبادة على جسد السوريين المنهك جراء سنوات الحرب الطويلة، فيما تزمجر إيران بجيوشها و"هي القوة التي لم تحقّق إنجازا عسكريا محترما في العصر الحديث" معتبرة أن معركة حلب هي المعركة المقدسة الكبرى.
ولعل ما يزيد الصورة قتامة، ترسّخ الإحساس عند السوريين، سواء أولئك القابعين تحت براثن الحصار وتتوعدهم طائرات بوتين وفؤوس الإيرانين بالإبادة، أو الخاضعين لعربدة ميليشيات الأسد ومن لفّ لفها من ميليشيات طائفية جاءتهم من كل بقاع الدنيا، ألا أمة لهم، وأن قمة العرب التي انعقدت في نواكشوط لم تستطع حتى إبداء موقف تضامني مع نكبتهم، وما زالت أنظمة العرب لم تحسم أمرها بسقوط شرعية بشار الأسد، والدليل أن غالبية تلك الأنظمة تتمنى عودته لإشغال المقعد السوري في جامعة الدول العربية، لولا أن الأخير بات يأنف حتى من الانتماء العربي ويصر إعلامه على إطلاق صفة" العربان" عليهم.
يوما بعد آخر تكشف الحرب السورية عن حجم زيف رصيد العالم الأخلاقي والقيمي، لم يتعب العالم، على ما يدعي بعض ساسته، من الحروب، فما زالت الأخيرة إحدى أهم خيارات الدول في تحقيق أهدافها ومطامحها، وما زالت صناعة الأسلحة وتجارتها تشهد الحيوية الأكبر في عناصر الإنتاج الاقتصادي العالمي، بل إن حروب الإبادة أصبحت وسيلة إعلانية ناجحة لترويج سلع القتل، ألم يقل الروس أنهم حققوا صفقات بيع أسلحة مربحة بعد أن شاهد العالم مدى جدوى أسلحتهم في الفتك باللحم السوري؟ ألم تكن الدول العربية نفسها أكثر الجهات المشترية للسلاح الروسي!
كلا لم يتعب العالم من الحرب، لكنه تأفف باكراً من دعم الحرية، ثم ماذا يعني أن تحصل الشعوب العربية على الحرية في حسابات الكبار؟ والأدق من ذلك، ماذا لدى السوريين حتى يجري محاباتهم ودعم حقهم في الكرامة والحياة، فلا أرضهم تنتج نفطاً يغطّي ثمن تكاليف الحرب من أجلهم، ولا هم، بمنظومتهم القيمية والأخلاقية المغايرة، يستحقون عناء التفكير والبحث عن طرق لمساعدتهم، وليسوا أقلية حتى يتم تكييف القوانيين الدولية لإنقاذهم ما دام أن الأخيرة تشترط أن تكون الجماعة المستهدفة بالإبادة أقلية، من منطلق أن الأكثرية مهما جرى تقتيلها لن يتم القضاء عليها، وفق حسابات بيولوجية عنصرية!
في حلب تبدو حرب الإبادة مختلفة عن سابقاتها في التاريخ، ذلك أنه في غالب الحروب التي من هذا النمط لم تكن الإبادة هدف مرسوم ومخطط ومشغول عليه بحرفية وإتقان، كانت الأمور تجري بشكل دراماتيكي بحيث تفقد الأطراف السيطرة على الأوضاع في لحظة معينة، كما حصل في رواندا، أو كانت تواجه مخاطر وتعتقد أنها باستخدام العنف المفرط تنقذ نفسها، ما يجري في حلب لا ينطوي على العناصر السابقة، بل عملية تجري بمزاج عال وتخطيط هادئ، حصل مثله في ممارسات إسرائيل المدروسة تجاه الفلسطنيين بقصد ترويعهم وتهجيرهم، وفعل الصرب الأمر ذاته في البوسنة والهرسك، واليوم تضيف النسخة الجديدة من الإبادة التي تقوم بها روسيا وإيران بعداً جديداً يتمثل في المطالبة بمكافأة لهما على إنتاج المذبحة وحصولهما على ترتيب جديد في سلم القوة الدولي.