كتاب عربي 21

عن السلفيين: رؤية مختلفة

1300x600
كان الثالث من يوليو 2013 لحظة إعلان تغيير مسار الثورة المصرية، بعدما لمس المجتمع الحرية والكرامة، إلا أنه لم يبلغ العدالة الاجتماعية وهي محرك الثورة الأساسي، واجتمع في لحظة إعلان وأد الثورة مجموعة من رموز الدولة، ومنهم رمز المؤسسة التي ستنتزع السلطة بمباركة الباقين، لكن الملفت كان حضور جلال مرة ممثلا عن حزب النور السلفي؛ إذ لم يتصور أحد أن يكون في هذا المشهد سلفي نظرا لما يعانيه -وسيعانيه بعد هذا القرار- الإسلاميون بشكل عام والسلفيون على اختلافهم بشكل خاص، وهو الأمر الذي أوجد سخطا واسعا ضد السلفيين، واعتبار الكثير منهم "خونة"، وهو أمر يحمل مغالطة واسعة، من حيث المبدأ العام المتعلق بحق توصيف فئة لأخرى في المجتمع بصفة الخيانة، ومن حيث صدق التوصيف ثانيا، خاصة إذا ذكر أحد قيادات الحزب أن نصف حزبه يعتصم بميدان رابعة العدوية، وما يمكن وصف أصحاب القرار به، لا يصح أن ينسحب على الباقين بشكل مطلق.

مؤخرا قُدِّرَ لي الاجتماع بعدد كبير من السلفيين في مكان واحد ولعدة أيام مما سمح لهذه المعايشة أن تشكل صورة مخالفة لما كان مُتصوّرا عن أحد أكبر القطاعات المصرية عددا وتأثيرا "في الجانب الديني"، وهم من مناطق شعبية، والتوصيف الطبقي ليس من قبيل الانتقاص، بل هو لإيضاح أنهم من قلب الكتلة الصلبة "الثقافية" للتيار السلفي.

ما خرجت به من تلك التجربة الذاتية عدة ملاحظات:

أولها: أن التشويه الذي يقوم به الإعلام والقطاع الفني للتيار السلفي، تسبب في إيجاد هوّة بين الطرفين، وهذه الأفكار التي يتم تصديرها لتصويرهم رجعيين، تكون منتقاة من جملة أقوال فيها الكثير مما يوافق الهوى العام للمصريين، وأن نعتهم بأحادية الرأي غير صحيح، بل يمكن الاتفاق على مساحات مشتركة، أو قبول عدم التعرض لمسائل تثير الإشكالات في المجتمع، وذلك النقد الدائم حتى المتعلق بحق اختيار الهيئة واللغة، أوجد السخط الشديد ضد الإعلام والفن، وكان يمكن تجاوز ذلك لو سادت لغة هادئة عند الطرفين في النقد، حتى المتعلق بالهيئة والثقافة.

ثانيها: ليس صحيحا أن الحالة السلفية تمثل رغبة في الانعزال عن حداثة المجتمع، وأنهم ضد الحداثة بطبعهم، ويمثل ذلك ملبسهم "النقاب أو ملابس الرجال"، أو لغتهم "أبي"، بل يجب تفسير ذلك في إطار الثقافة التي يعتز بها أي سلفي من جهة، وأي عربي أو مسلم من جهة أخرى؛ إذ إن اللغة خصوصا لها امتداد ثقافي، وتخصيص التفسير بالثقافة لأنه يكافئ -من حيث العمومية والتجريد- مَن يتحدث لغة أجنبية وهو عربي، أو ترتدي ملابس البحر، فذلك محصور في الثقافة المتكونة، لا المراد فرضها، وليس المجال هنا لتقييم المصيب أو المخطئ، بل لتفسير السلوك الموصوف.

ثالثها: أن القوم كباقي المصريين، يضحكون ويحبون أخذ نصيبهم من الحياة في سلام دون ترهيب أو اعتقال، أو أوصاف تنتقص منهم ومن ثقافتهم، ويلينون في تربية أبنائهم دون إكراه على نمط معيشتهم الثقافية أو الدينية، حتى سمعت أحدهم ينصح آخر بألا يجبر ابنه على المسجد، بل يجعل صلاته نابعة من حبه لها، وإذا جنح الليل هاتف كل زوجٍ زوجَه وأَلَانَ لها الكلام، وهو ما يبدو من الضحكات الخافتة والبسمات التي تصاحب حوار الراحة من عناء يوم شاق، فلا هي منتقَصَة عنده ولا هو جلاد لها.

رابعها: أن إشكال ما يدور في المجتمع من انقسام وتجاذب اجتماعي، نابع من حواجز تمنع الاتصال بين أفراده، فلا السلفيون مخيفون، ولا المسيحيون خونة، ولا الإخوان إرهابيون، ولا العلمانيون كفار، ولا الأزاهرة مبتدعون، بل كل تجمع واسع فيه كمالات ونقصان المجتمعات البشرية، والحوار النابع من التقريب لا التركيع والإذلال هو الذي يسمح بتعايش في ظل اختلاف، وتقارب في ظل تعدد.

لا أحتاج للتنبيه على أنني لست وكيلا عن أحد، ولست محسوبا كذلك على أحد تنظيمات ما يسمى بتيار الإسلام السياسي، ولا أحاول غسل أخطاء أحد الأطراف أو تصويره كأنه أنقى ما أنجبت الحالة المصرية، بل سيبقى الخلاف في الأفكار وفي منهجية التفكير، وسيبقى في كل تجمع بشري من يستحق أسوأ الأوصاف، وستظل هناك مفارخ للتطرف في كل تجمع، ولكنه يتنوع، فهناك تطرف الدولة وأصحاب النفوذ والمال، وآخر من الأقل حظا، وثالث ديني، وهذا التنوع سُنّة الكائنات، لكن المطلوب التدافع حول الأفكار بما تستحقه من كونها مجرد أفكار لا سلوكيات، أما السلوك فهو ما قد يحتاج لعقوبة، أو لا يحتاج إذا كان تجاوزه أنفع في العلاج.

إن إشكال تراجع الثورة هو ضد ما تجمع لها من أسباب نجاحها، وأهم الأسباب على الإطلاق التقارب على أساس المشترك بين المجتمع وهو كثير، لذا اهتمت المؤسسات القوية بالدولة بتفكيك كل صور التقارب بين المجتمع ليصفو الحكم لها وحدها، ولا سبيل لإعادة تلك اللحمة المفقودة إلا بالنقاش والحوار الذي يتغيّا التقريب، لا إثبات الخطأ عند الطرف المقابل وإذلاله، ولا تلازم بين دعوى التقريب وبين تجاوز الخطأ السلوكي أو المعرفي.

التجربة الأخيرة تجربة ذاتية لا تصلح للتعميم أبدا، ولكنها تصلح كأحد مؤشرات الاستقراء، وأزعم أنها تسببت بتغيير كبير عندي في مفهوم قبول الآخر وأهمية معايشته قبل الحكم عليه، أيا كان فكر أو دين هذا الآخَر.