نادرا ما أكتب عن السياسة الأوروبية، لكن ما حصل بالأمس لا يمكن أن يمر مرور الكرام في ذاته أو في تداعياته، وهو يحمل معه رسائل ومضامين تستحق أن تخضع للتحليل على أكثر من صعيد.
نحو 52% من الناخبين البريطانيين صوتوا لصالح الخروج من
الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي شهد أكبر نسبة مشاركة منذ نحو ربع قرن.
هناك من يشير إلى أن معظم الشباب -من الفئة العمرية (18- 25 عاما)- صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، فيما صوتت الشرائح العمرية الأكبر سنا لصالح الخروج. وعندما يتعلق الأمر بالأرياف والمدن، فقد صوتت المدن والمقاطعات الكبرى لصالح البقاء، فيما صوتت المناطق الداخلية والأرياف لصالح الانفصال.
وعند النظر إلى الدوافع، تشير بعض التقارير إلى أن عوامل مثل الرغبة في وقف تدفق المهاجرين وتحرير الاقتصاد جاءت على رأس قائمة الدوافع للتصويت لصالح الانفصال، لكن كل هذه العوامل حقيقة تخفي وراءها أزمة أعمق تتمثل بصعود
اليمين المتطرف في أوروبا، وعودة النزعات القوميّة والتطرف القومي إلى الواجهة من جديد.
واللافت للانتباه في هذا السياق، هو أن هذه الظاهرة آخذة في التوسع في السنوات الأخيرة ليس في أوروبا فقط، وإنما في الغرب عموما، ولا يخرج نموذج ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية عن هذا المسار الصاعد في الغرب عموما، كما ذكرنا.
المفارقة أن الاقتصاد البريطاني كان من أول ضحايا نتيجة الاستفتاء، إذ انهار الجنيه الإسترليني فور إعلان النتائج، ووصل إلى أدنى مستوى له أمام الدولار منذ حوالي ثلاثة عقود.
سياسيا، دفع ديفيد كاميرون ثمن الورقة التي استخدمها سابقا رافعة سياسية، فانقلب السحر على الساحر، ولم يعد بإمكانه تدارك الموقف مع إعلانه عن استقالته، على اعتبار أنه ليس الرجل المناسب لقيادة عملية الانفصال.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيؤدي الاستفتاء الذي جرى إلى دومينو انفصال في الاتحاد الأوروبي؟
ربما يقول البعض إنه ما زال من المبكر الحكم على هذا الأمر، لكن الواقع يقول إن الأمر عكس ذلك تماما. على الصعيد الداخلي، يشير البعض إلى أن أسكتلندا وإيرلندا الشمالية قد صوتتا بكثافة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومن المعلوم أن السنوات الأخيرة أكّدت حقيقة أن بقاء أسكتلندا في
بريطانيا غير مضمون، لاسيما مع التهديدات المتكررة من قبلها بالانفصال، كلما حصلت أزمة بين الطرفين، ولا شك أن نتيجة التصويت الآن التي تقر انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي قد تفتح باب النزاع مع أسكتلندا من جديد.
على الصعيد الخارجي، يُعدّ اليمين الفرنسي والهولندي المتطرف من أوائل المنتشين للنتيجة التي تحققت في بريطانيا، وما إن أعلنت النتائج الداعية للانفصال حتى علت أصوات اليمين في البلدين تطالب بتحقيق الأمر ذاته.
ما تعكسه هذه التطورات لن يقف عند حدود هذه الدول، فهناك من الدول الأوروبية من كشفت محنة اللاجئين والنازحين فاشيتهم الجديدة، وهناك من الدول الأوروبية من هو معارض للسياسة التقشفية التي تفرضها الدول الكبرى في الاتحاد، وهناك دول أوروبية فاشلة بكل ما للكلمة من معنى، وجودها داخل الاتحاد الأوروبي أشبه بقنبلة موقوتة.
خلاصة القول، إن الاستفتاء البريطاني قد يكون رأس جبل الجليد فقط، وسيكون الاتحاد الأوروبي محظوظا جدا إن استطاع النجاة من دومينو قد تخلّفه الصدمة البريطانية في وقت يعاني فيه اقتصاديا واجتماعيا وديمغرافيا وحتى عسكريا؛ في ظل حالة الشك وعدم اليقين التي تطبع علاقاته مع الولايات المتحدة من جهة، وتزايد النزعة العدوانية التوسعية الروسية، من جهة أخرى.