كم قرأنا وحاولنا أن نفهم ونتعلم من دروس التاريخ القديم والحديث، فلم نحسن إدارة الصراع بيننا وبين سرطان زرع في أرضنا، فترعرع، وأزهق الأرواح، وابتلع الديار، وهيمن على المقدسات، وشرد أهل أرضنا في
فلسطين باستعمار إحلالي فريد من نوعه.
ربما يكون المرء متواضعا جدا عندما يقول إننا لم نحسن إدارة الصراع، ولكن الحقيقة؛ العلقمية في مرارتها، هي أن الصراع ازداد سوءا، انتقالا من نكبة في فلسطين في عام 1948 إلى نكسة في فلسطين وسوريا ومصر ولبنان في عام 1967، وما لحق هؤلاء إلى يومنا هذا من نكبات ونكسات، وهذه كلها ما بين سلام المستسلمين وخذلان المخذولين؛ أنفسهم لأنفسهم قبل غيرهم.
من منا لا يعرف عن نكبة فلسطين -أم النكبات- وما قبلها من وعد بلفور اللئيم، واتفاقية سايكس بيكو اللعينة، ومضي حوالي قرن على آفاتهما اللواتي دمرن الحرث والنسل والشجر والدواب؟ ومن منا لا يعلم ما بعد النكبة والنكسات المتتاليات، وصولا إلى نكبة القرن الحادي والعشرين في
سوريا ونحن نشاهد حلبة الصراع فيها؟
نشاهد أرواحا تزهق، ودماءً تنزف، ونساءً يُغتصبن، وشيوخا تهان، وعائلات بأكملها تهجر، وأطفالا تدعى الكلاب لتنهشهم وتقلع أظافرهم، ومساجد تنتهك حرماتها، بل تدمر، ومستشفيات تسوى بالأرض، وأطباؤها وممرضوها وعاملوها يُفتك بهم وهم في واجب مقدس، نحسبهم جميعا يعجلون إلى ربهم ليرضى عنهم.
وهنا لا بد للمرء الكيس الفطن أن يسأل نفسه: أين الخلل؟ ثم بعد ذلك يستطيع ذاك المرء أن يسأل كثيرا من الأسئلة التي لا يمكن أن تبدأ قبل الإجابة عن هذا السؤال العظيم. فقط عند الإجابة عن هذا السؤال نستطيع أن نسأل: إلى متى نبقى هكذا؟ وكيف نستطيع تغيير حالنا؟
ربما يأتيك أحدهم مشخصا ويقول لك: "الإسلام هو الحل". وربما يكون هذا جزءا مما انتهت إليه مقالة مجلة "الإيكونومست" البريطانية في عددها الصادر يوم 16 مايو بعنوان: "The war within us" (الحرب من داخلنا)، وقولها: "دون الإسلام، ليس مرجحا لحل أن يكتب له البقاء.. Without Islam, no solution is likely to endure".
ولا شك أن في تلك المقالة الكثير الذي يمكن أن نستفيد منه ونوظف الأحسن منه رؤية وتشخيصا.
علمتنا العلوم الهندسية أنه قبل أن تباشر في إنتاج منتج أو حل مشكلة، فلا بد لك أن تعرف المشكلة في غاية من الدقة، وأن تشخص حدودها وكيفية تفاعل الحلول المقدمة مع من حولها في بيئتها، شريطة أن تكون تلك الحلول مفيدة للإنسانية، لا ضارة بأي شكل من الأشكال، وبهذا نساهم كمهندسين في عمارة هذه المعمورة.
وكم استفادت العلوم من بعضها البعض، وحتى علم هندسة النظم البرمجية قد بني وتطور تعلما من العلوم الهندسية الأخرى، وللأسف ما زالت نقابات المهندسين في العالم العربي لا تأخذ بهذا العلم الحديث، أي علم هندسة البرمجيات، مجالا هندسيا، بينما العلوم الهندسية الأخرى بدأت تأخذ من هذا العلم الحديث، خصوصا في إدارة التغيير (Change Management) التي تطرأ على المنتج، وفي مجال هندسة المتطلبات (Requirements Engineering).
وهنا أستعير نموذجا هندسيا لدورة حياة تطوير المنتج، وعلى الأخص ما يسمى النموذج الحلزوني (Spiral Model) الذي طوره -في العام 1986- العالم الكبير في هندسة البرمجيات (Barry Boehm) الذي أثرى الكثير من عمله في مشاريع هندسة البرمجيات مع وزاره الدفاع الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي.
ويعتمد هذا النموذج الحلزوني على أن تتم إعادة الدورات الحلزونية لتطوير وتحسين المنتج على أربع مراحل أساسيه لكل دورة، أوردها هنا بشكل مختصر:
أولا: تحديد الأهداف بشكل دقيق دون هوى، وهذا يتطلب توصيفها بشكل شمولي للمرحلة أو الدورة الحالية.
ثانيا: عمل دراسة لإدارة المخاطر الخاصة فيما يمكن أن تتزامن مع تحقيق هذه الأهداف للدورة الحلزونية الواحدة ذاتها.
ثالثا: تنفيذ أهداف المرحلة المناطة.
رابعا: تقييم نتائج تحقيق أهداف تلك المرحلة.
وبهذا نستطيع إعادة الدورات الحلزونية المرحلية مرات حتى نستطيع تحقيق المقصد المناط من المنتج مع أهدافه كاملة. بالطبع هناك نماذج وطرق هندسية أخرى.
ولكن يطرح السؤال نفسه، ما لهذا وما بين نكبتي فلسطين وسوريا في هذا الطرح هنا؟ فمنذ عام 1948 ونحن فاقدو الأهداف؟
فلو افترضنا إلى يومنا هذا 68 دورة سنوية حلزونية منذ عام 1948 بين مؤتمرات قمم عربية ومجهودات فردية وحزبية لتحرير فلسطين، وبين من امتطوا جواد فلسطين أوقاتا ووهما وخداعا وزورا وبهتانا، يبيعون شعوب الأمة العربية كلاما عاطفيا؛ ليدغدغوا عواطفهم بقومية تارة، وتارة أخرى بثقافة تفاح الضرار "إزرع تفاح.. واترك السلاح"، تمشيا مع ثقافة العدو في مسجد الضرار.
ومن هنا يتبادر للأذهان لماذا لا يقوم العلماء الأفذاذ الأحرار -بمختلف تخصصاتهم- وأصحاب النهى والأعمال المتميزين بعيدا عن الرويبضات، في إدارة وهندسة دفة الصراع؟ ولكنك تقول: أين هم؟ وكيف تجمعهم على قلب رجل واحد؟
لسنا فقط فاقدي الأهداف، بل فقدنا التخطيط الاستراتيجي، ونحن الأمة التي وصفت بالخيرية في أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بربها وإلهها الواحد الأحد.
وقد يتخيل البعض أننا نعيش فقط صراعا من نوع واحد!! بل نعيش صراعات مختلفة نحتاج من قبل أن نستطيع إدارتها أن نحسن هندسة أهدافها وتحقيق مرادها. فهل هناك من يشك في أننا نعيش صراعات داخليه فكرية وسياسة واجتماعية واقتصادية؟
والأدهى والأمر هو أنه غلب علينا الهوى، مثل من يعشق امرأة فيبيع كل مبدأ ويواري هنا وهناك، ليجعل تلك المرأة التي يعشقها تمكنه من نفسها مهما كلفه الأمر، حتى ولو كان تجويع شعب أعزل وتعطيشه، أو إزهاق أرواح، أو تعطيل مبادئ الإنسانية، أو كلها جميعا.
هنا يتجلى المشهد في الآية الكريمة التي هي نبراس لكل من يريد أن يتعلم ويدرك كنه من يتبع الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية (23).
وقد علمنا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، مؤسسا لعلم التخطيط الاستراتيجي، كيف طبق الآية الكريمة في التخطيط والإعداد: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) الأنفال (60). علمنا كيف خطط للحدث العظيم -بقدر ما استطاع- في الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ذلك الحدث الذي أسس لحضارة الإنسان، ونقله من الجهل والظلم إلى النور وسبيل الرشاد، بل الرشاد محققا. علمنا كيف خطط وأعد تباعا من بيعة العقبة الأولى إلى الثانية، وتحضيره الخطط قبيل الهجرة وليلة الهجرة نفسها، وكيف نفذ وأدار المخاطر في عملية تحليل لها، كما نسميها اليوم في علومنا الهندسية والإدارية (Risk Management).
وفوق هذا وذاك، فقد علمنا رسول الهدى، عليه أفضل الصلوات والتسليم، أن الهوى لا ينجح في إدارة أي عمل، وعلمنا كيف نطبق نظام التخطيط الاستراتيجي من القرآن الكريم في منظومة أخلاقية علمية عالمية متكاملة للعالمين جميعا. وعلمنا كيف كان يخطط استراتيجيا لفتح مكة، وكيف أدار الصراع من قبل صلح الحديبية إلى فتح مكة العظيم وما بعده. وتبعه الخلفاء الراشدون.
علمنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف كانت رؤيته المستقبلية لكيان أمة الإنسانية في حدث عظيم يستحق أن تدرسه جامعات العالم في مدراسها ومعاهدها الاقتصادية والاستراتيجية، كمثال على الرؤية الثاقبة والحكيمة لولي الأمر.
هنا نذكر ونتذكر كيف كانت نظرة عمر رضي الله عنه عندما رفض توزيع أراضي الفيء في العراق والشام كغنائم على المحاربين مستدلا بالآية الكريمة (مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر (7).
لقد تنبأ عمر بثاقب رأيه واجتهاده أنه لو وزعها على المحاربين فستغدو تلك الأراضي موضع تداول بين الأغنياء، فيزداد الغني غنىً ويزداد الفقير فقرا. وكم خالفه من أصحابه الكبار مثل بلال بن رباح، ولكنهم في النهاية نزلوا عند ثاقبية نظرته الاستراتيجية في اجتهاده وبعد اجتهاده وقوله لهم: "فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذه البلد وبغيره". ألم يكن عمر في ذلك مخططا استراتيجيا اقتصاديا واجتماعيا ينظر إلى الأمر إلى أن يأخذ الله الأرض ومن عليها؟ لم يكن صاحب هوىً لنفسه بل كان رجل أمة الإنسانية.
وفي عصرنا الحديث، رأينا من ركبوا على ظهر دبابة المحتل، وامتطوا بدلهم وربطات عنقهم في مناطقهم الخضراء، وجماجم الأطفال وعويل النساء وسجون الذل والهوان وهدر العفة والكرامة تشهد عليهم في أبي غريب وأمثاله في سوريا وفلسطين وغيرها. حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعندما يُنظِّر عليك من يمتطي "الإسلام هو الحل" بسطحية وحرفية حروفها، ويكأن تلك الكلمات إذا قلناها دون علم وعمل تكون وصفات سحرية إذا شربتها تنحل عرى مشاكلنا كلها بلمح البصر.
والأدهى والأمر أن يخرج عليك آخر مشخصا لنجاته -هو ومن في معيته- مستشهدا بحديث افتراق الأمة لرسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم رواية عن الترمذي (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة، وهي التي على ما أنا عليه وأصحابي).
ويا ليت هذا الآخر سمع ما نورد هنا شرحه، لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، عن الطائفة الناجية، وذلك نقلا عن موقعه على الشبكة العنكبوتية: "الذين اجتمعوا على الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقاموا عليه، وساروا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم ونهج أصحابه، وهم أهل السنة والجماعة".
ولنسأل ذلك الآخر الذي يعتقد أنه من الطائفة الناجية دون غيره: هل اجتمعنا على منهج ذلك الحق العظيم واستقمنا عليه وسرنا عليه؟ وهل تركنا جاهلية قريش التي دعانا رسول الهدى -عليه أفضل الصلوات- أن نتركها في قوله: "دعوها فإنها منتنة"؟ فكيف للبعض أن يظن أنه هو الحق، والآخرون هم أهل الباطل وعن الصراط المستقيم هم منحرفون؟!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن كان هؤلاء فعلا يؤمنون بأحقيتهم للحق، ونشك في ذلك، بل نقول إنه الهوى لمآرب شخصية نفعية يعلمها هم أنفسهم، والطامة الكبرى أن يتبعهم ضعاف النفوس وقليلو العلم، بل قليلو أو معدومو المعرفة والفقه في علوم الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر وغيرها.
بل تراك تتوقف مذهولا وأنت تسمع مثلا لمن يحاولون دس السم في العسل أو بعضه، فمنهم من حاول في الشرق والغرب؛ ليثير السخط والتقليل من فوز
عمدة لندن المنتخب صديق خان، الذي كان فخورا بوالديه وأسرته على الملأ، وخصوصا بوالده سائق الباص في لندن، وأمه التي كانت تحيك الثياب، ولكل رأيه وحريته فيه دون تجريح في حق الآخر.
ليس الموضوع اتفاقنا معه في كل شيء أو خلافنا معه في بعض الأمور، فربما نسي الكثير من هؤلاء كيف كان صديق خان يشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرلمان البريطاني "من رأى منكم منكرا فليغيره"، وكيف كان يمتطي فخره ذاكرا تعليم والده له ذلك الحديث. هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى ماذا يعنينا هذا الأمر من قريب أو بعيد أن نجرح الآخر؟ ولماذا في ذلك التوقيت من فوزه ومن قبل توقيت انتخابه؟
إننا بدل الاتسفادة من غمار التجربة الديموقراطية في الغرب، وجاهلية هوى تقطن في الشرق، نهينا عنها "دعوها فإنها منكرة"، نجد من يزايد على صديق خان؛ ليحاول العودة بنا إلى الوراء. ولكننا نتساءل: هل كنا سنقبل برئيس بلدية لعاصمة كبيرة عندنا من أصول آسيوية وسط مجتمع أبيض؟ بالطبع لا، فرق بين هذا وذاك في ميزان الله عز وجل سوى معيار التقوى.
لا شك أننا في أمس الحاجة لهندسة صراع، بل صراعات عنيفة تمر بها المنطقة العربية في أحرج الأوقات الجلل، ونحن نرى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من تبعات سايكس بيكو.
فمن جانب واحد، الصراعات الفكرية يمتشقها أصحاب الهوى، ويمتطون جواد ذلك الهوى، ويزينون لمن يتبعهم من الناس في ضعفهم وحاجتهم وقلة حيلتهم، ومن جانب آخر تحيك القوى الداخلية الخارجية والرويبضات إطالة الصراع السياسي، بل زيادة استعار النار بجرعات، فما تخمد النار قليلا حتى يسعرون لها مجددا. وما من شك فإن الصراع الفكري يؤجج فتيل الصراعات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
فكيف يمكننا أن نحقق أي من أهدافنا ونحن في صراعات لا نستطيع هندستها، فكيف بإدارتها في الوقت ذاته الذي تتحكم فيه فينا شياطين الهوى وأتباعهم؟
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوَّتنا، وقلَّة حِيلتنا، وهواننا على الناس، اللهم أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربنا، لا إله إلا أنت، إلى من تكِلنا، إلى قريب يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا، إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لنا.
نعوذ اللهم بنور وجهك الكريم، الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن يَحِلَّ علينا غضبك، أو ينزِل علينا سخطك، لك العُتبى اللهم حتى ترضى، ولا حوة ولا قوة إلا بك.