تجهد فرنسا لإعادة تأكيد مركزيّة دورها في الشرق الأوسط. يدفعها إلى ذلك مصالحُ اقتصادية وشوق إلى زمن لعبت فيه دورا رئيسا في مجريات الأحداث. المشكلة ليست في تعطّش فرنسا إلى حضور أكبر في المنطقة. فذاك هدف مشروع ومفهوم في سياق الحقائق التاريخية والمصالح المتداخلة. المشكلة في الأدوات التي تستخدمها فرنسا لتحقيق ذلك وفي المنطلقات التي بنت عليها سياساتها خلال السنوات الماضية.
لعبت باريس دورا كبيرا في إنتاج الكارثة التي صارتها ليبيا. كان رئيسها السابق نيكولا ساركوزي القوة الأكثر تبنيا للخيار العسكريّ، الذي أسقط القذّافي من دون التفكير باستراتيجية تحول دون إحالة البلد مستنقعا من الفوضى. وكان ساركوزي من بين أوّل من تخلّوا عن مسؤولياتهم إزاء البلد وأمنه، وكأنّ هدفه كان التخلّص من القذّافي بأيّ ثمن، وليس إنقاذ ليبيا من دكتاتوريّته ومساعدتها في التطوّر دولة مستقرة ناجحة.
وتتبنّى فرنسا أحد أكثر المواقف تشدّدا إزاء سورية. تضغط باتجاه الحلول القصوى رغم معرفتها استحالة الوصول إلى هذه الحلول في ضوء موازين القوى على الأرض. وتشدّدها اللفظيّ إزاء قمع النظام لا تقابله جهود كافية لمساعدة ضحايا الحرب، سواء لناحية استقبال اللاجئين أو لجهة مساعدتهم في أماكن تشرّدهم. موقف باريس شعاراتي أكثر مما هو واقعي عمليّ.
يطرح ذلك أسئلة مشروعة عن الطبيعة الاستعراضيّة للسياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط منذ سنوات. تُجعجع باريس كثيرا من دون الالتفات إلى النتائج. ثمّة تفسيران لذلك: الأوّل أنّها ترى الصوت العالي والمواقف المتشددة ضامنين للحضور في سوق المزايدات التي يُتاجر فيها بحقوق الشعب السوريّ، وقبله الليبيّ. والثاني أنّ فرنسا تُموضع نفسها على يمين مواقف بعض الدول الإقليميّة من الأزمات العربيّة، وخصوصا الأزمة السوريّة، سعيا وراء تثمين لها يُترجم صفقات تجاريّة.
وربّما يفسّر هذا نزوع كثير من المحلّلين إلى اعتبار السياسة الخارجيّة الفرنسيّة نحو المنطقة "صفقاتية"، بمعنى أنّها محكومة بالعوائد الماليّة المباشرة أكثر ممّا هي مُنطلقة من مبادئ وأهداف ثابتة.
الآن تريد فرنسا إحياء مفاوضات السلام الفلسطينيّة-الإسرائيليّة التي قتلتها إسرائيل. تدخل فرنسا على خطّ الجهود السلميّة بعد أن تخلّت عنها واشنطن التي فشلت في إقناع نتنياهو تقديم أيّ تنازل يُمكن أن يؤدّي إلى انفراج.
ما الذي تستطيع أن تقدّمه فرنسا حيث فشلت واشنطن، وهي لا تملك جزءا من أدوات الضغط التي تملكها أميركا؟
فإسرائيل أعلنت بملء الفم رفضها المبادرة الفرنسية عقد مؤتمر دوليّ للسلام. والحكومة الإسرائيليّة تمضي في إجراءاتها الأحاديّة التي تجعل من حلّ الدولتين هدفا مستحيلا. لا تستطيع فرنسا إجبار نتنياهو وقف بناء المستوطنات أو إلزامه تنفيذ الاتفاقات التي كانت وُقّعت خطوات نحو سلام دائم مبني على انتهاء الاحتلال.
كيف ستقنع باريس إسرائيل بحضور المؤتمر؟ عمليّا، لا تملك فرنسا أيّ قدرة على التأثير بالموقف الإسرائيلي. ولن تستطيع أن تغيّر بقدر أنملة من مواقف نتنياهو المعادية للسلام. وهنا مكمن الخوف. فمن أجل أن لا تفشل بلعب دور وسيط السلام، قد تلجأ باريس إلى تقديم التنازلات المجّانيّة إلى إسرائيل.
فإصرار فرنسا على عقد المؤتمر رغم انعدام فرص تمخّضه عن أيّ تقدّم دليل على أنّها ليست معنيّة بالنتائج بقدر ما هي مهووسة بالادعاء أنّ جهودها حرّكت مياه السلام الراكدة.
لذلك لا بدّ أن تقارب القيادة الفلسطينيّة موقفها من الجهد الفرنسيّ بحذر. مفهوم أن تدعم القيادة الفلسطينيّة أيّ تحرك يُعيد تسليط الضوء على القضيّة الفلسطينية التي نسيها العالم منذ تفجرّت أزمات المنطقة الأخرى. لكنّ هناك ضرورة للحذر من أن يكون الثمن الذي قد تسلّفه فرنسا لإسرائيل لضمان دعمها مبادرتها هو إعادة صياغة مرجعيّات الحلّ التي أقرّها العالم بما ينسجم مع رغبات نتنياهو.
على السلطة الفلسطينيّة التفاهم مع باريس على مرجعيّات مؤتمر السلام الذي تريد باريس وأهدافه قبل دعم انعقاده في الثالث من شهر حزيران (يونيو) المقبل. فباريس تريد الدور. لكن الفلسطينيّين يحتاجون جهدا مثمرا.
عن صحيفة الغد الأردنية