كتب موسى برهومة: الذين يطلبون من الكتّاب والمثقفين الوقوفَ على الحياد في القضايا السياسية والمطلبية، كأنهم يحثّونهم في الوقت ذاته أن يكونوا بلا لون ولا طعم ولا صفة. وهو موقف إن صدر، وهو ويصدر كثيرا، يضع صاحبه في خانة «اللاموقف» على ما يستدعيه ذلك من متاهات لا آخر لأنفاقها.
التموضع والتموقع ضروريان أحيانا عندما يكون البشر في فوهة الموت والإفناء، وعندما يُساقون إلى الذبح كالخراف، بلا أي ذنب ارتكبوه، سوى أنهم وُلدوا في هذه الجغرافيا المسيّجة بالبارود والطغاة. آنذاك، لا يمكن للكاتب، الذي لديه أدنى إحساس تشاركي وتضامني مع الآخر، أي آخر، إلا أن ينحاز، وأن يصطف إلى جانب الضحية بدمائها الساطعة كنور شمس في رابعة النهار.
والضحايا يُعرفون بالبديهة، في سيمائهم يلمع الرعب، ومن خلال أصواتهم المخنوقة ينبعث نداء إنسانيّ مزلزل، إن لم يتلقفه الكاتب أو الناشط أو السياسي، ويلبي الاستغاثة، فإنه ينكسر ويتشظى أخلاقيا، ويتناثر في أربع جهات الأرض كالغبار، أو كأيّ هباء. فأين يقف المثقف الذي يُنظر إليه في الوجدان الجمعي باعتباره رائدَ أهله، ومرشدَهم إلى ضفاف الخيريّة والسلامة؟
هل يحتاج الكاتب الذي كافح في سبيل أن يسلَم قلمه، من الضغائن الأيديولوجية والاصطفافات المذهبية والجهوية، إلى بوصلة تدلّه إلى الحق والعدل والحب والجمال. أليس قلبه بوصلته؟ أليس ضميره اليقظ هو ما يقوده إلى الكتابة ناقدا ومحذّرا وهجّاء ومدافعا عن الإنسان في اللحظة التي تكون الحياة برمّتها في مرمى الحرائق؟
الكاتب بطبعه منحاز. لا يمكن أن تكون مع القاتل، ومع الضحية في وقت واحد. إن كنت كاتبا مدجّجا بالأكاذيب والأوهام والعُقد القَبَلية والأيديولوجيات المحنّطة، فإنك لا محالة تنحاز إلى القاتل؛ فتشرع في تبرير جرائمه، ورشّ السكر بغزارة على وجه الموت. إنك تغفر، كما لو كنتَ إلها، عن فظائع الجلاد، وتحاول أن تضعها في أفق «الدفاع عن الأمة»، أو «مكافحة قوى الإرهاب والظلام» وتتناسى أطفالا جوعى قضوا لأنهم كانوا في حاجة إلى كِسرة خبز، أو قطرة ماء امتنعت عنهم وعن أهاليهم وجيرانهم فهلكوا ببطء شديد، وكانوا في أثناء ذلك، يصرخون ويستغيثون ويرفعون أياديهم النحيلة إلى السماء، ولربما سمعتَهم أنت، فران على قلبك الصمم. أنت هنا تنحاز إلى الموت، بكل ما فيه من توحّش وعذاب. ليمت الأطفال، تقول في نفسك، وليتمجّد القاتل بسيفه المبلول بالدم والعار.
وإذا كان ثمة انحياز مدفوع الثمن، يمارسه الكتَبة وأشباه المثقفين، فإنّ الضفة الأخرى من المشهد ترسل إلينا إشارات عن انحياز منزّه عن الغرض والاصطفاف والحسبة السياسية الضيقة والمشوّهة والآنية والمتقلّبة، فأنت تنحاز لأنّ صوتا يقظا ينطلق من أعماقك يذكّرك بالميثاق الأخلاقي، ويزيل الغبار عن أفكار الحق والخير والعدل، وتلك أفكار بشّرت بها الأديان، واقتطفت منها أيديولوجيات ذلك المُدافع عن الطاغية، وأوسعها الفلاسفة توضيحا وشرحا وتقنينا، فأضحت بمثابة شرائع.
والحق لا يلتبس على الناس ذوي الفطرة السليمة، فكيف يلتبس على الكاتب والمثقف الذي خبِر الوقائع والشواهد، وتغذى فكره ومخيلته على الجدل. وكيف له بعد ذلك أن يقف على الحياد، وألا ينخرط في الدفاع عن الحياة وعن الإنسان مهما كان لونه أو عرقه أو مذهبه أو مطرحه؟ صحيح أنّ بعض انحيازات أولئك الكتّاب والمثقفين قد تتقاطع مع مصالح دول أو أطرف أو جهات، إلا أن ذلك لا يعنيهم، ولا يتعين، بداهة، أن يؤخذ هؤلاء بجريرة غيرهم، فهم لم يفعلوا ما فعلوه نزولا عند رغبة تلك الجهات، بل نزولا عن رغبة الدفاع عن الحق، لأنه أوْلى أن يُتّبع!
(عن صحيفة الحياة اللندنية)