الأحداث المتسارعة التي يشهدها
اليمن على المستوى الداخلي بين الأطراف المتصارعة أو الأطراف الخارجية المنحازة لأحد تلك الأطراف، قد تدفع نحو إعادة تأسيس الفوضى في اليمن على معطيات جديدة ومصالح خاصة. فاليمنيون يأملون أن تنتهي محادثات السلام الجارية في الكويت بحل يجنب اليمن مزيدا من الانهيار نحو فوضى لا نهاية قريبة لها، لكن يبدو من خلال متابعة الأحداث وتحليلها أن اليمن سيكون ساحة صراع لتصفية حسابات طويلة المدى على المنظور المتوسط؛ تحركها أطراف محلية وإقليمية تهدف إلى فرض مصالحها وأجندتها بأيد يمنية بعيدة عن السلطة الشرعية. وكل هذه التطورات التي يشهدها اليمن مؤخرا، خاصة في الجنوب، تصب في النهاية في صالح
الحوثيين كجماعة انقلابية وتمهد نحو التفتيت الفوضوي الذي سيعمق الأزمة اليمنية.
ولعل هناك مجموعة من الشواهد والدلائل التي تمهد لمثل هذه الفوضى يمكن تتبعها في المعطيات التالية:
- ضعف السلطة الشرعية المتواجدة في الرياض، وعدم تجانسها وبروز الخلافات بين أجنحتها أكثر من مرة. وبقاء السلطة الشرعية في الخارج أحد أهم أسباب ضعفها، بل ويشكك في مصداقية إنجازها العسكري على الأرض. فعجزها عن توفير الأمن في بقعة على الأرض والعودة إليها لممارسة وظائفها الدستورية يتسبب في تآكل شرعيتها الشعبية في نظر المواطن. فتوفير الأمن للمواطن أهم وظائف السلطة. علاوة على ذلك، هناك تكتلات تعمل في اتجاهات مختلفة وتدين بالولاء لجهات متعددة؛ ما أضعف قرارها وجعلها قرارات متضاربة وغير عملية أو تخدم المرحلة، ما فتح شهية الأطراف الإقليمية لمزيد من التدخل في الشأن اليمني تحت لافتات متنوعة، وأتاح للجماعات المسلحة أن تتكاثر ناشرة معها الفوضى في اليمن.
- تغذية الجماعات المتطرفة، من القاعدة والحراك الجنوبي المتطرف وجماعات مليشيات الحوثي وأطراف أخرى في المقاومة خارج سلطة الشرعية، بالسلاح، وتمكينها من اقتطاع جزء من الأرض وفرض قوانينها وسلطتها، ما يطيل أمد الصراع ليصل لخلق حالة من الفوضى تحت شعارات الطائفة أو التكفير أو الوطنية، على غرار النموذج العراقي السيئ.
- تأخر معركة الحسم للعاصمة صنعاء، وتأجيل تحرير تعز المحافظة الواقعة في وسط اليمن وتركها دون دعم لوجستي حقيقي قادر على حسم المعركة، رغبة في جعلها بؤرة استنزاف طويلة ومرهقة للأطراف المتحاربة في اليمن، كما يرى بعض المراقبين، ما يولد حالة من الإحباط الشعبي ولدى الفصائل المقاتله تحت لواء الشرعية. كما أن مد الحرب إلى أرياف تعز الآمنة والقريبة من المحافظات الجنوبية (لحج وعدن)، كالتربة والوزعية، يكشف عن وجود رغبة إقليمية لإطالة الحرب، ونشر الفوضى في هذه المنطقة الحيوية القريبة من عدن وباب المندب الممر الدولي الاسترتيجي والحيوي..
- استمرار الدعم السياسي والعسكري للحوثيين إقليميا أو دوليا، والحرص على التعامل معهم كسلطة أمر واقع على حساب الشرعية السياسية للرئيس
هادي الحكومة الحالية؛ سيُفقد الثقة بأي قوى إقليمية، وقد يدفع لفوضى حرب طويلة قائمة على الاستنزاف مع الحوثيين..
- عدم توحيد القيادة العسكرية لجيش الشرعية والمقاومة تحت لواء واحد، ودمجها تحت قيادة واحدة، حيث إن بقاء فصائل من المقاومة المسلحة بعيدة عن قيادة الجيش قد يجعلها مصدرا للفوضى، كما حدث في عدن وأبين. وهنا بدأت تبرز الانتصارات على الأرض التي تحققها المقاومة تحت لافتات فصائلية ينسب لها النصر..
- ممارسات السلطة الشرعية في المناطق المحررة مع المواطنين بصورة مهينة واستفزازية، كتهجير أبناء تعز خاصة والمحافظات الشمالية عامة؛ بالهوية من عدن، بحجة عدم امتلاكهم بطاقات شخصية وبصورة مخالفة للقانون اليمني، أو في حضرموت باعتقال رموز من التيار السلفي المنتمي إلى محافظات حضرموت. كل ذلك يكشف عن ارتباك الأولويات لدى السلطة الشرعية، حيث إن مثل هذه الممارسات قد تولد ردودا عنيفة ضد السلطة وتفقدها جزءا من الحاضنة الشعبية، إضافة إلى أنها تفتح الباب للفوضى الجهوية، كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي في عدن. ويرى مراقبون أن هنالك أيد خفية خارجية تدفع في هذا الاتجاه..
- بقاء الرئيس المخلوع علي صالح داخل اليمن كمحرك رئيسي وأساسي في الفوضى والحرب الدائرة اليوم، بما يمتلكة من مال وقوات عسكرية ونفوذ، دون ردعه أو الضغط عليه من قبل المجتمع الدولي والإقليمي، وهو يملك أوراق ضغط قوية ضده، سواء مالية أو استخباراتية قادرة على تكبيل حركته، مما يثير الشكوك حول دوره في تنفيذ مخطط لصالح قوى دولية وإقليمية، كإيران وروسيا، باتفاق معها على إعادته مرة ثانية إلى السلطة، وهذا بعلم الأمريكان..
- تلكؤ المجتمع الدولي وضعف جديته في التعامل مع الملف اليمني، سواء على المستوى السياسي أو الحقوقي، وهذا برز بصورة واضحة وجلية في مشاورات الكويت، والدلال الذي تعامل به المجتمع الإقليمي والدولي مع الحوثيين، وخاصة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ، ما جعل كثيرا من المراقبين يتخوفون من أن يكون ولد الشيخ على خطى المبعوث السابق ابن عمر، الذي يتهم بتواطئه مع الانقلاب وصياغة وثيقة السلم والشراكة بعد اقتحام صنعاء، وبالتالي أي تلكؤ في تنفيذ القرار 2216 ومنح الانقلابيين شرعية دولية في السلطة؛ سيكون على حساب الاستقرار ولصالح الفوضى في مجتمع قبلي يميل للانتقام..
- التدخل الأمريكي في حضرموت تحت لافتة الحرب على القاعدة، والإعلان الصريح عن تواجد قوات محدودة مع القوات الإماراتية، ما سيعطي للجماعات المتطرفة، كالقاعدة، مبررا لمزيد من العمليات في هذه المنطقة بحجة محاربة الأمريكان، ما قد يدخل المنطقة في أتون فوضى جديدة..
في النهاية، نعتقد أنه ما لم يكن هناك جدية واضحة في تنفيذ القرار الأممي 2216، وتوحيد كل فصائل المقاومة تحت لافتة الجيش الوطني، وإصلاح الاختلالات في الحكومة الشرعية، وتحرير تعز، والتوجه الجاد عسكريا، إذا فشلت مفاوضات الكويت، لاستعادة العاصمة صنعاء، وقطع كل الطرق والأسباب التي قد تزيد من الفوضى، فإن اليمن مقبل على حالة من الفوضى، على غرار النموذج العراقي والسوري للأسف الشديد. فمع مرور الوقت تتولد أسباب جديدة للفوضى في البلاد.