يتجه العالم بطبيعته في الوقت الحالي نحو المجتمعات التي لا تستخدم النقود السائلة Cashless Societies، ولعل من يسافر للخارج يلاحظ هذه الظاهرة في كثير من منافذ البيع التي لا تقبل الكاش وتفضل الدفع بالوسائل الإلكترونية، لما لها من مزايا كثيرة أهمها الأمان والسرعة وانخفاض التكلفة. في ظل هذه التطورات تصبح الحاجة للنقود السائلة محدودة جدا، وإن كانت هناك حاجة للكاش فإنها ستكون موجهة أساسا نحو الوحدات النقدية ذات الفئات الصغيرة التي تستخدم لتمويل العمليات محدودة القيمة.
على المستوى الكلي يقلل تراجع التسويات بصورة نقدية من فرص التهرب الضريبي، حيث يسهل في هذه الحالة تتبع المعاملات التي يقوم بها الخاضعون للضرائب، بعكس الحال عندما تتم التعاملات بصورة نقدية، حيث يمكن إخفاء جانب كبير من المعاملات ومن ثم تسهيل التهرب.
منذ فترة كانت هناك دعوات في بعض أنحاء العالم إلى ضرورة تخلص البنوك المركزية من الوحدات النقدية ذات الفئات المرتفعة مثل الـ 500 يورو الأوروبي، والألف فرنك السويسري والمائة دولار الأمريكي لغرض آخر وهو مكافحة الجريمة، بصفة خاصة الاتجار في المخدرات والاتجار في البشر وتمويل الإرهاب... إلخ، ويعتبر البنك المركزي الأوروبي أول البنوك المركزية في العالم الذي يستجيب لهذه الدعوة، حيث أعلن إلغاء الـ 500 يورو، بحيث ينتهي التعامل بها في 2018. الهدف الأساس من الخطوة هو محاصرة استخدام هذه الوحدة النقدية في تمويل العمليات غير القانونية. تاريخيا كان الاحتياطي الفيدرالي قد ألغى الوحدات النقدية ذات الفئات المرتفعة في 1969 والتي تشمل الـ 500 دولار حتى العشرة آلاف دولار لأسباب أخرى تتمثل في ندرة استخدامها.
من الناحية العملية تقدم الوحدات النقدية ذات القيم المرتفعة حلا مثاليا لتمويل الجريمة، خصوصا إذا كان اللجوء للنظام المصرفي صعبا أو يشكل مخاطرة في كشف هذه العمليات بسهولة. ووفقا لبعض الدراسات عن السوق السوداء للدولار، وجد أن وحدة المائة دولار لها علاوة سعرية خاصة، تراوح بين 3 إلى 20 في المائة على سعر السوق السوداء للدولار، في إشارة إلى تفضيل هذه الوحدات النقدية لسهولة استخدامها في عمليات التمويل المختلفة التي تتم من خلال السوق السوداء للعملة.
يعد عالم تمويل الجريمة من القطاعات المتسعة عالميا، على سبيل المثال فإن حجم تجارة المخدرات على المستوى العالمي يقدر بنحو نصف تريليون دولار سنويا، أعلاها من حيث القيمة هي مبيعات مستوى التجزئة التي تتم في الشارع، وتدفع قيمتها نقدا، لذلك يتراكم عن هذه التجارة كميات ضخمة من الكاش، يلزم لإخفائها وسهولة نقلها استخدام أوراق نقدية ذات فئات مرتفعة، ولعل العالم لم ينس صورة الكميات الضخمة من الدولارات التي تم ضبطها في أحد بيوت تجار المخدرات في مكسيكو سيتي في 2007 التي بلغت 207 ملايين دولار.
"داعش" أيضا تمثل أحد تطبيقات استخدام الفئات النقدية مرتفعة القيمة، حيث تقدر مبيعات داعش من تهريب النفط بنحو نصف مليار دولار سنويا قبل الضغط الحالي عليها. مثل هذه العمليات لا يمكن أن تتم من خلال أي نظام مصرفي، حيث يسهل تتبع هذه المعاملات وإيقافها أو مصادرتها، وتعد المائة دولار هي العملة المفضلة لـ "داعش". وحتى بالنسبة للتسويات التي تتم لحساب "داعش" مصرفيا في حسابات خاصة، فإنه يتم نقلها لاحقا في صورة نقدية إلى مناطق وجود التنظيم في العراق وسوريا وغيرهما، حيث تستخدم في تمدد "داعش" بتمويل جميع احتياجاتها وسداد رواتب المجندين فيها.
في ورقة عمل له عن الظاهرة بعنوان "إلغاء الوحدات النقدية ذات الفئات المرتفعة وتصعيب استخدامها من جانب الأشرار"، أوضح بيتر ساندز أن الأوراق النقدية ذات الفئات المرتفعة تقدم مزايا عديدة للمتعاملين أهمها خفة الوزن وانخفاض الحيز الذي تحتله، على سبيل المثال فإن المليون دولار من ورقة الـ 500 يورو وزنها 2.2 كيلو جرام فقط، مقارنة بالوحدة النقدية 50 يورو التي يزن المليون دولار منها 22 كيلو جراما. بالطبع خفة الوزن وسهولة الحمل في حقائب أقل يجعلها أداة مثالية لتمويل الأعمال غير المشروعة. على سبيل المثال يقدر أن الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة تشهد سنويا عمليات نقل سرية لما بين 20 إلى 30 مليار دولار كاش، حصيلة تجارة المخدرات، ولا شك أن نقل هذه الكمية الهائلة من النقود يتطلب استخدام وحدات نقدية ذات فئات مرتفعة، لذلك كانت المطالب قد تصاعدت بأن تقوم الولايات المتحدة بإلغاء المائة دولار.
غير أن وضع الدولار يختلف عن وضع اليورو، باعتبار أن الدولار عملة العالم، وبالتالي لا يستخدم فقط كعملة احتياط وإنما كوحدة حساب وكوسيط للتبادل في الكثير من دول العالم في إطار ما يسمى بعملية الدولرة أو إحلال العملة، حيث تستخدم ورقة المائة دولار بكثافة، لذلك ليس مستغربا أن تمثل وحدة المائة دولار أكثر من 85 في المائة من الأوراق النقدية المطبوعة بالدولار. ومن ثم فإن إلغاء المائة دولار قد يهدد المركز العالمي للدولار كعملة دولية.
من المهم أيضا التنويه إلى أن إلغاء العملات النقدية ذات الفئات المرتفعة لن يؤدي إلى انتهاء عمليات تمويل الأعمال غير المشروعة، فما زالت هناك قائمة طويلة من السبل التي يمكن اللجوء إليها لهذه المهمة، كاستخدام المعادن النفيسة أو النقود المشفرة مثل البت كوين وغيرها، غير أن هذه الوسائل جميعا إما مكلفة أو ذات مخاطر أعلى بالنسبة لمستخدميها، مقارنة بالنقود السائلة ذات الفئات المرتفعة.
بعض المراقبين يعارض فكرة الإلغاء على أساس أن ذلك يعد تدخلا في الحرية الشخصية للمتعاملين ويحد من خياراتهم حول الوسيلة التي يفضلونها لتسوية المعاملات التي يقومون بها، مفضلا أن يتم وضع حد أقصى على قيمة المعاملات التي تتم تسويتها نقدا، أو وضع قيود على إيداع النقود في المصارف بالوحدات ذات الفئات العالية، لكن هذه الانتقادات لا تبرر الإبقاء على هذه الوحدات النقدية في ظل الاتجاه العام لتراجع استخدام الكاش في تسوية المعاملات، كما أن وضع القيود حول الحد الأقصى الذي يتم إيداعه نقدا في المصارف لم يحد من المعاملات غير القانونية مثلما هو الحال في الولايات المتحدة.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية