يوافقني الرأي صديقي الشيخ الجليل الدكتور عبد السلام
البسيوني، بأن الإعلام العربي والعالمي نجح نجاحا بارعا في تقديم العلماء المسلمين/ على أنهم على حد تعبيره "قوم شديدو الغلاسة، ثقيلو الدم، منفرون، وِشِّهُم يقطع الخميرة م البيت، وطلعتهم تسد النفس المفتوحة، كما نجح في أن يضفي على رجال الكنيسة سمات السماحة والبشاشة، حتى سماهم (مبشرين)! تخيل: هؤلاء مبشرون، وأولئك مكشِّرون. يا لطيف يا رب!".
ولكن، وكما قلت في مقالي هنا يوم السبت الماضي، فإن نفرا من الوعاظ والخطباء والأئمة، ما زالوا يحسبون أن التجهم متمم للوقار، وأن الابتسام والبشاشة والضحك، أمور من صفات العوام، ولا تليق بالعلماء، ومن يقرأ كتاب البسيوني "شيوخ ظرفاء"، سيدرك أن أعلام علم الشرع الحقيقيين، الدعاة الفاهمين، الذين صقلتهم التجربة، وهذبتهم الدعوة إلى الله تعالى، من أظرف الناس مجلسا، وأحضرهم بديهة، وأخفهم دمّا، إذا رأيتهم على سجيتهم، لم تصدق أنهم يمكن أن يمتلكوا هذا المقدار من (العفرتة، والشقاوة) وسرعة البديهة.
ولا أحسب أن شخصا من أبناء جيلي كان متابعا للشؤون والأحوال العامة في بلاد "من المحيط إلى الخليج"، لم يسمع بالشاعر
المصري الراحل هاشم
الرفاعي (اسمه الحقيقي سيد جامع هاشم مصطفى الرفاعي ولكنه فضَّل أن يحمل اسم جده)، وقصيدته التي رثى فيها شخص ما نفسه وهو على بعد ساعات من منصة
الإعدام:
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني/ والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَة/ مَقْرورَة صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها/ وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
ومن عجائب الأقدار أن شاعرنا هذا مات مقتولا في عام 1959، وهو دون الخامسة والعشرين، والفاعل ضميره مستتر، وفي رواية أخرى "غائب"، ولم يستغرب من يعرفونه أن يتم اغتياله وهو الذي ظل يناطح الحكومات منذ عهد الملك فاروق (ابن نازلي):
يا فتية النيل الممجَّد إننا/ نأبى ونرفض أن نساق قطيعا
هذا "ابن نازلي" للهلاك يقودنا/ جهرا ويَلقى في البلاد مطيعا
فإلى متى هذا الخنوع وإنه/ جرم أضاع حقوق مصر جميعا
وكان بدهيا أن يتغنى الرفاعي بسقوط الملكية وقيام ثورة تموز/ يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، ولكنه سرعان ما ناهض حكم ناصر وجاهر بمعارضته له:
أنزلْ بهذا الشعب كل هوانِ/ وأعدْ عهود الرق للأذهانِ
أطلقْ زبانية الجحيم عليه مِنْ/ بوليسكَ الحربيِّ والأعوان
وهاشم الرفاعي، وبحكم تعليمه وثقافته "شيخ"، فقد صمد في المعاهد الأزهرية طويلا، وأكمل تعليمه في كلية دار العلوم، ثم انقلب على الأزهر وبكاه ونعاه:
قف في ربوع المجد وابك الأزهرا/ واندبه روض للمكارم أقفرا
واكتب رثاءَكَ فيهِ نفثةُ موجَعٍ/ واجعل مدادَكَ دمعَك المتحدرا
المعهد الفردُ الذي بجهاده/ بلغت بلاد الضاد أعراف الذُّرَى
سار الجميع إلى الأمام وإنه/ في موكب العلياء سار القهقرَى
لهفى على صرحٍ تهاوى ركنه/ قد كان نبعًا بالفخار تفجَّرا
من كان بهجةَ كل طرفٍ ناظرٍ/ عادت به الأطماع أشعث أغْبَرَا
ما أبقت الأيدي التي عبثت به/ من مجدِه عرضًا له أو جوهرا
قد كان تنقيح العلوم وفحصها/ بالبحث من فرض العمامة أجدرا
هذا الشاب النابه، الذي ناطح مشايخ الأزهر وحكم الملك فاروق وجمال عبد الناصر، وقائل:
"يا ثورة في ضلوعي/ وما لها من هجوعِ
إلام أقضي حياتي/ في ذلة وخضوعِ؟".
وحاز شهرة تجعلك تحسب أنه عاش قرنا، ولم يمت عن 24 سنة فقط، لم يكن يرى أن الدعابة تنال من كونه صاحب مبدأ وقضية، كان على استعداد للموت دفاعا عنهما (وقد كان!!)، وإليك ما قاله عن رحلة مع رفاقه في الأزهر، وانظر كيف يمكن لشخص كهذا، أن يكون لطيفا ظريفا خفيف الروح:
أتيْتُ إلى هذه الرحلةِ/ أجرِّرُ أذيَالَ كاكولتي
وقيل ليَ: الزيَّ لا تنْسَهُ/ فلمْ تنجُ رأسيَ منْ عَّمتي
وقد لبس الكلُّ ما عندهمْ/ من البنطلونِ إلى البدْلةِ
وهأنذا بينكمْ قدْ ظهرْتُ/ حزينا بهاتيكمُ البلْوةِ
وإن أنسَ لا أنسَ أمرَ الطعامِ/ وقدْ أوقعَ الكلَّ في ورطةِ
لقدْ قتَّروا في مصاريفِنا/ وما لايمونا على الفكَّةِ
وها نحن لمْ نلْقَ زادا لنا/ سوى العيشِ والمِلحِ والجبنةِ
و"شاهينُ" جاءَ لنا عامِدا/ يُحَنِّسُنا اليومَ بالفرْخَةِ
وراحَ يُقطِّعُها بيْننا/ ويبلعُ ما طابَ منْ لحْمةِ
وما قالَ: هاشمُ.. خُذْ حتةً/ وقد كنتُ نِفسي في حتةِ
هاشم الرفاعي الذي ينتقد حال أزهر وحكام زمانه، على ما جرَّه عليه ذلك من ويلات، هو قائل الشعر "الحلمنتيشي" ذاته أعلاه، وهو ذاته أيضا من بكى على "أطلال" الأزهر:
سل موئل الأفذاذ من أشياخه/ عن معشرٍ كانوا به أُسْد الشَّرَى
العاملين لرفعة الإسلام ما/ منهم كَهامٌ قد ونى.. أو قصَّرا
والمبتغين رضا الإله وما ابتغوا/ من حاكمٍ عرَض الحياة محقّرا
كانوا المنار إذا الدياجي أسدلت/ ثوبَ الظلام هدى الأنام ونوّرا
كانوا لمن ظُلموا حصون عدالة/ كانوا الشكيم لمن طغى وتجبَّرا
ردُّوا غواة الحاكمين، وغيرُهم/ لتملق الأهواء كان مسخرا
والشاهد، هو أن الدعابة المهذبة والظرف لا ينزعان ثوب الجدية عن صاحب الرسالة والمبدأ. بالعكس تجعلانه قريبا إلى النفوس.