يُروى في إثبات فطريّة اللغة، أن أحد الفراعنة عزل طفلين منذ ولادتهما، فلا يسمعان كلاما، وانتظر مدة من الزمن، حتى سمعهما ينطقان كلمة مسموعة مكونة من أصوات كالتي ينطقها الإنسان، وكانت تلك الكلمة إفرنجية وهي (bexos)، أي خبز. من هذه الرواية استدل "فندريس" صاحب كتاب اللغة/ ص35 على أن اللغة لم تولد "كحدث اجتماعي إلا يومَ أن وصل المخ الإنساني إلى درجة من النمو". ومن قبلُ ذهب أفلاطون إلى التصريح المباشر بذلك قائلا: "اللغة إلهام ومقدرة فطرية، يكتسبها الفرد منذ الخلق".
إلا أن العلماء منذ القدم لم يتنبهوا تماما إلى حقيقة تلك "المقدرة"؛ فلم يتحدثوا عن وسيلة هذه المقدرة، التي دلّنا عليها الكتاب العزيز. يقول الأستاذ الدكتور عودة أبو عودة -أستاذ اللغويات- في تقديمه لكتاب الدكتور إبراهيم الحارثي بعنوان "
اللغة العربية إلى أين؟"/ص16: "إن السمع والبصر الذي أودعه الله عز وجل كل إنسان، هو العامل الأول في اكتساب الإنسان لغته من بيئته التي يحيا فيها. إنّ الإنسان يولد على الفطرة لا يعلم شيئا... ثم يبدأ يتعلم مما يسمع ومما يرى ومما يشعر به بحواسه الخمس من أحداث وأصوات"، وهذا الفكر السليم، منطلِق من قوله عز وجل: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (النحل: 78).
بدأت بهذا الحديث عن فطريّة اللغة، وحقيقة اكتسابها، لأمور باتت بادية الخطر في مجتمعاتنا، فمنذ سنين طويلة والتعليم في جامعاتنا العربية، يدرسّ بغير العربية، وقد طالت الدعوات من الغيورين على العربية وأبنائها إلى تعريب
التعليم الجامعي، ولكن للآن لم تظهر على السطح أيُّ خطوة جادة وصادقة في هذا الأمر الجلل، على أنك -أيها القارئ الكريم- كيف نظرت في أصقاع الأرض، إلى الأمم الأخرى من حولنا، وعلى مرأى من عيوننا، ومسمع من آذاننا، تجد تلك الأمم لا تدرس إلا بلغاتها، وما كانت نهضتها، إلا لأنها درّست بلغاتها، التي لن ترقى إلى منزلة لغتك العربية، التي كرمها الله بأن أنزل بها آخر الكتب السماوية، وما زلنا نُصِرّ على هجرها!!
وفي نظرة أخرى إلى مدارسنا، يبدو اليوم أن تلك المرحلة من الدعوة إلى تعريب التعليم الجامعي باتت على هامش الأولويات؛ إذ أصبح لِزاما الدعوة اليوم إلى تعريب التعليم المدرسي؛ فقد باتت مدارسنا تتسابق إلى ما يُسمى بالبرنامج الدولي، بصرف النظر عن ضرورته أو عدمها، وبصرف النظر عن مصلحة الطالب من عدمها، وبصرف النظر عن خطورة هذا على طلابنا من عدمها، فالأمر بات تجارة، على حساب اللغة أولا، وعلى حساب الطالب ثانيا. فبالله عليكم، ما معنى أن يدرس الطالب في المرحلة الابتدائية مادة الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية؟ ما فائدة هذا الأمر؟ ما نتائجه على الطالب وعلى لغته؟ وبخاصة أن ما يُعطى في هذه المواد بالعربية، ليس ذا صلة وثيقة بما يعطى لهم في المواد نفسها بالإنجليزية؟
ألا يكفينا ما يُسمى بالمدارس الإنجليزية، والأمريكية، والتركية؟ التي كلٌّ منها يُعلي من شأن لغته، بل الأولوية فيها لتعليم لغاتها، ثم العربية فعلوم الدين أمور ثانوية! هذا عدا عما يليها من جامعات ألمانية وأسترالية وأمريكية!
إني لأتحدث بقلب يتفطر لحال الأمة ولغتها فيهم، بقلب رأى نماذج حيّة، تنبئ عن خطورة تلك الخطوات غير المدروسة وغير الواعية وغير المسؤولة.
- فما رأيكم بالطالب الجامعي لا يفهم ولا يدرك ما يُشرح له، بحجة أنه درس في مدارس إنجليزية أو أمريكية؟
فما ذنب الأستاذ الجامعي هنا؟!
- وما رأيكم بمعلم المراحل الابتدائية الثلاث الأولى، تنبهه لحديثه بالعامية مع طلابه في الغرفة الصفية، فيكفهر وجهه محتجا: وما فائدة الحديث باللغة الفصيحة مع الطلاب؟؟
أليست اللغة فطرة، ولا نهضة لأمة إلا بلغتها؟!
- وما رأيكم في الأستاذ الجامعي المتخصص بعلم الحاسوب أو الكيمياء أو الفيزياء وغيرها من هذه العلوم التي لا تدرّس إلا بالإنجليزية! تسأله عن مصطلح في تخصصه، ما معناه بالعربية، فيطرق طويلا، ثم يجيبك: لا أعرف، فأنا درسته بالإنجليزية؟؟؟
نعم درسته باللغة الإنجليزية، لكنك أستاذ جامعي الآن؟! مسؤول أمام طلبتك!
وما رأيكم.. وما رأيكم؟ فالنماذج من هذا كثيرة ومؤلمة.
أليست هذه الحالات وغيرها، لعدم الإدراك الأول لأهمية اللغة، وطرق اكتسابها، وعدم إدراك قيمة اللغة في نهضة الإنسان فالمجتمع؛ لدى الأهل (الأب والأم أولا)، ولدى المؤسسات التعليمية (المعلم أولا)، ولدى وسائل الاتصال (الإعلام في مقدمتها)، ولدى المسؤولين؟
إني هنا، أدعو بقلب صادق إلى ضرورة إعادة النظر فيما يُسمى بالبرامج الدولية التي تسلّلت-عن قصد أو عن غير قصد- إلى مدارسنا على حساب لغتنا، فما أهمية أن يتخرج طلابنا أفذاذا باللغات الأجنبية هُزّالا بلغتهم الأم (العربية)؟ وإني هنا غير داعية إلى عدم تعلم اللغات الأخرى -فديننا حثّنا على تعلم لغات الأمم، لكن لنأمن شرها وعدوانها، لا لأن تكون لغتها هي لغتنا الأم- إنما أدعو إلى تنظيم تدريس اللغات الأجنبية في المدارس إلى جانب اللغة الأم؛ تنظيمها من حيث المرحلة العمرية المناسبة لتدريسها؛ فمعظم الدراسات الحديثة تؤكد خطورة تدريس لغة أخرى إلى جانب اللغة الأم قبل الحادية عشرة من العمر. وتنظيمها من حيث طرقُ تدريسها، ومن حيث أهميةُ تدريسها وضرورة ذلك، لا أن تكون هي الأساس الأول، والأَوْلى المُؤَسّسُ عليه؛ فتعلم اللغات الأخرى بالمصطلح الشرعي فرض كفاية لا فرض عين -إذا جاز القياس-.
فلنراجعْ أنفسنا وأولوياتنا، ولننظرْ نظرة حاضرة ومستقبلية صادقة إلى حالنا، التي تذكرنا بقول الشاعر عمر أبو ريشة في استدعائه الأمة العربية جمعاء، وسؤالها سؤال الحزين الغيور:
أمتي، هل لكِ بين الأمم مِنْبرٌ للسّيف أو للقلم؟
فهلّا استعدنا منبرنا قبل فوات الأوان؟
هذا، والله من وراء القصد. ولنا لقاء آخر.