يسلك بعض المتدينين في سياق إبطالهم لأعمال يفعلها
المسلمون في عصور متأخرة، سبيل الاحتجاج بترك الرسول عليه الصلاة والسلام لتلك الأفعال، فيسارعون إلى إشهار مقولة "لم يفعله الرسول" تنفيرا للمسلمين من إتيان تلك الأعمال وممارستها، وفقا لأساتذة وباحثين في العلوم الشرعية.
ويرى أرباب ذلك الاتجاه في الاستدلال الفقهي ضرورة التفريق بين العادات والعبادات، إذ الأصل في العادات الإباحة، أما العبادات فهي توقيفية، ما يعني أن "كل عبادة تركها الرسول عليه الصلاة والسلام مع وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها، فتركها سنة محمودة، وفعلها بدعة مذمومة" بحسب فتوى أحد المواقع المتخصصة في الفتاوى الشرعية.
فهل مجرد ترك الرسول عليه الصلاة والسلام مع قيام ما يقتضي ذلك الفعل، وعدم وجود ما يمنع منه، يعتبر حجة يصح الاستدلال بها؟ وهل ثمة أدلة شرعية معتبرة على حجية الاستدلال بترك الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وما هو المقتضي الذي يعول على وجوده لاعتبار الترك حجة؟
وأوضح الأكاديمي الشرعي السعودي سعيد بن ناصر الغامدي أن "المراد بترك النبي عليه الصلاة والسلام هو عدم فعله أو قوله لما هو قادر على فعله أو قوله، وأن الترك النبوي في الأصل حجة دون ما استثني وهو على درجات وأقسام، ويلزم المسلم الاقتداء بالنبي في الترك كما في الفعل".
وأضاف سعيد بن ناصر الغامدي: "الترك على ضربين: وجودي وعدمي، فالأول الوجودي أو الترك المنقول هو الذي عُلم بالنص أنه كف عنه وتركه.. وهو على قسمين: ترك مسبب وهو ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كف عنه لسبب أي أنه نقل لنا سبب تركه، مثل الترك بسبب مانع أخبر به عليه الصلاة والسلام مثل ترك الاجتماع للتروايح للمانع المذكور (مخافة أن تفرض عليكم)...
ووفقا للغامدي فإن صور هذا الترك متعددة، منها ترك الأفضل لبيان الجواز، والترك لأجل بيان التشريع مثل تركه الوضوء لكل صلاة يوم الفتح وصلاته بوضوء واحد من غير ناقض، ومنها الترك لعدم ملاءمة الطبع كتركه أكل الضب، والترك بسبب النسيان كترك ركعتين من العشاء ثم صلاها لما ذكروه بها.. موضحا أنها هذه الصور ومثيلاتها "محل اقتداء إلا ما كان خاصا به وهو على درجات من حيث الوجوب والاستحباب والمنع..".
وبين الغامدي أن القسم الثاني هو "الترك المطلق، أي دون ذكر السبب للترك كترك تغسيل الشهيد وترك الآذان في العيد وترك الاستعانة بمشرك في الحرب"، لافتا إلى أن الترك المطلق إن كان مجردا فإن "كان في عبادات محضة فحكمه المنع وفعله بدعة كتركه الاحتفال بمولده وإقامة ليلة النصف من شعبان..".
وأضاف: "أما إن كان في غير عبادة محضة كتركه النوم قبل العشاء والسهر بعده فهذا حكمه الكراهة، وهو محل اقتداء بحسب درجاته".
وردا على سؤال "
عربي21" حول حكم الترك العدمي، قال الغامدي: "الترك العدمي هو ما ليس بفعل، أي لم يفعله أصلا، أي ما ترك نقل أنه عليه الصلاة والسلام فعله، فهو قسمان: ما لم يكن مقدورا له عليه الصلاة والسلام وهذا يعرف حكمه بطريق القياس مثل حكم الربا في الألماس والأحجار الكريمة".
وتابع الغامدي: "ومنه ما كان مقدورا له عليه الصلاة والسلام وهو على ضربين: ما وجد مقتضاه في زمنه ولم يمنع منه مانع، فإن كان في العقائد والعبادات فواجب تركه.. ومن فعله فقد ابتدع، أما إن كان في العادات والمعاملات فيدخل في باب المصالح الموهومة".
وأفاد: "أما ما لم يكن له مقتضى في عهده عليه الصلاة والسلام ثم حدث ذلك المقتضى بعده، وهو لا يكون في العبادات وإنما في العادات والمعاملات والسياسية الشرعية"، فطبقا للغامدي فإن "الأصل فيه الإباحة والجواز، وقد يكون مصلحة مرسلة إذا استوفى شروطها".
من جانبه رأى عميد كلية الشريعة في جامعة جرش الأردنية حسن شموط أن "حجية ترك النبي عليه الصلاة والسلام للأفعال على الأحكام يحتاج إلى تفصيل، فإن كان في العبادات، ولا أصل لها في التشريع فهي واجبة
الاتباع، كتركه عليه الصلاة والسلام الأذان والإقامة في صلاة العيدين، فدل أن تركه هو الواجب اتباعه، ومخالفة ذلك ابتداع في الدين".
وتابع حسن شموط: "أما تركه عليه الصلاة والسلام لكثير من القضايا الداخلة تحب باب المباحات، أو التصرفات بحكم طبيعته البشرية، فلا يعتبر تركه فيها واجب الاتباع، وتجوز مخالفته، كامتناعه عن أكل الضب، لعدم استساغته له كطبع بشري".
وتابع شموط في حديثه لـ"
عربي21": "كذلك الأمر في قضايا المعاملات التي الأصل فيها الإباحة، فتركه عليه الصلاة والسلام للفعل لا يدل على التحريم إذا لم يكن فعل المتروك مخالفا للقواعد العامة والأصول المتبعة في الشرعية الإسلامية".
وأوضح شموط أن "ثمة ضوابط عديدة لحجية ترك النبي عليه السلام للأفعال، منها أن يكون الترك لسبب كخشية أن يفترض الفعل على الأمة، أو فيه مشقة تلحق بالأمة، أو خشية حدوث مفسدة أعظم مع بقائها، ومنها أن يكون تركه لفعل الشيء تركا بيانيا أو تشريعيا...".
ولاحظ أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن وليد الشاويش، أن "مقولة (لم يفعله الرسول) باتت تتردد كثيرا في مساجد المسلمين، وأحيانا يثور حولها جدل غالبا ما يدور في حلقة مفرغة، ولا يفضي إلى ثمرة نافعة ومفيدة، ويصل إلى طريق مسدود".
وتابع في حديثه لـ"
عربي21": "كما أصبحت هذه المقولة تستخدم دليلا على رد أصول الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة، بحجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بالرغم من أن الفعل قد يكون ثابتا بنص عام أو مطلق، أو بالأصول الأخرى مثل: المصالح المرسلة، سد الذرائع، البراءة الأصلية، وغير ذلك من الأصول التي ليس هنا محل بسطها وسردها، بل يكفي التمثيل بها".
وتساءل الشاويش، في معرض مناقشته لمدى حجية هذه المقولة في إنشاء الأحكام، لماذا لم يدخل أهل الحديث ترك النبي عليه الصلاة والسلام في تعريف السنة، فلم يجمعوا تروك الرسول إحياء للسنة، كما جمعوا لنا أفعاله وأقواله وإقراراته وصفاته الخَلْقية والخُلقية، في أدق تفاصيلها؟".
وأضاف الشاويش: "ورد في الكتاب العزيز الأمر بالاقتداء بما أتانا به الرسول (قولا وفعلا وتقريرا، أمرا أو نهيا) ولم يرد الترك في قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، فمن أين جاء الترك كحجة من حجج الشرع، خصوصا وأن الترك عدم، ولا حجة في العدم؟".
وأردف الشاويش بسؤال آخر: "لماذا لم يجعل الأصوليون الترك النبوي مصدرا من مصادر الشرع، ولم يجعلوه جزءا من السنة، واتفقوا مع المحدثين على أن الترك ليس من السنة، لأنه عدم لا يدخل في السنة المنقولة ولا المعقولة، ولم يضعوا الترك أصلا من أصول الشريعة، هذا فضلا عن أن يضعوا له قيودا وشروطا: كالمقتضي، وانتفاء المانع والإمكان؟".
ووفقا للداعية والباحث الشرعي الأردني أحمد الصوي فإن "دافع الكثيرين ممن يرددون تلك المقولة (لم يفعله الرسول) هو الحرص على الاتباع، وسد باب
الابتداع في الدين، مؤكدا أن الترك المجرد ليس دليلا ولا حجة".
وأوضح الصوي لـ"
عربي21" أن "الصحابة كانوا يتحرجون من فعل ما لم يفعله الرسول، كما وقع لأبي بكر الصديق في قضية جمع القرآن، وقال لهم (كيف أفعل شيئا لم يفعله الرسول)؟ ثم عاد وفعل ذلك بعد أن أقنعه عمر بالمصلحة المتحققة بجمع القرآن".
ولفت الصوي إلى "ورود بعض الأحاديث التي تبين أن من الصحابة من فعل أفعالا تعبدية ابتداء، لم يسبق للنبي فعلها، فأقرهم عليها وأثنى على فعلهم لها، كما في قصة مدحه لبلال بسبب صلاته ركعتين عند كل وضوء، متسائلا: من أين لبلال صلاة ركعتين عند كل وضوء، والتي أقره عليها النبي ومدحه بسببها؟".
و"تبقى الإشارة إلى أن هذا الجدل الفقهي حول حجية ما ترك النبي عليه الصلاة والسلام فعله ستبقى من المسائل الشائكة، والتي لن يتوقف الجدل حولها بسبب اختلاف مناهج الاستدلال الفقهي، لكن ينبغي أن يتوافق الجميع على أن مقولة (لم يفعله الرسول) ليست مصدرا من مصادر التشريع، ولا منهجا صحيحا في الاستدلال"، بحسب وليد الشاويش.