في خمسينيات القرن الماضي، تمكن المرشح المسيحي هاني سالم من الفوز على المرشح الإخواني الشيخ أحمد الجنادي في إدارة "الميتم الإسلامي" في حوران، التي تصنف على أنها منطقة سورية محافظة، وهو من المشاهد التي يعتد بها الكثير من السوريين للتعبير عن حالة "التآخي" بين
المسيحيين والمسلمين.
لكن المشهد يبدو الآن أكثر تعقيدا مع دخول مفردات جديدة إلى القاموس السياسي والاجتماعي السوري، لعل آخرها "
الفيدرالية". وهذه الأخرى نقطة اختلاف بين المسيحيين أنفسهم؛ إذ يراها المحلل السياسي ثابت سالم، وهو نجل هاني سالم، أنها تشكل بالنسبة للمسيحيين "أذى اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا".
ويوضح سالم لـ"عربي21" أن "المسيحيين في
سوريا ينتشرون على امتداد البلاد طولا وعرضا، وهذا ينسحب على مصادر عيشهم وأرزاقهم وممتلكاتهم من جهة، وعلى شبكة العلاقات التي يقيمونها من جهة ثانية، كعلاقات مسيحيي حوران مع بدو اللجاة، التي تتميز بكونها علاقات اقتصادية واجتماعية، وهذا ينسحب على دمشق وحلب واللاذقية وحماة وحمص".
ويخلص ثابت سالم إلى القول: "المسيحيون يعدّون الفئة الأكثر تضررا في حال قيام فيدراليات لا تحمل مفهوم الإدارة المحلية واللامركزية بل تتعداه إلى كيانات"، وفق تقديره.
التجربة العراقية:
لكن ما يراه ثابت سالم لا يوافقه فيه رئيس المجلس السرياني بسام إسحاق، الذي يعتقد أن أغلبية المسيحيين لن يعارضوا الفيدرالية "إذا كانت بتوافق سوري ودون تدخل خارجي".
ويقول إسحاق لـ"عربي21": "أكثر السوريين يعتقدون أن الفيدرالية تساوي
التقسيم، ويتأثر انطباعهم هذا بالتجربة العراقية، لكن من أكثر دول العالم نجاحا الدول الفدرالية أو الاتحادية"، ويذهب أبعد من ذلك مضيفا: "علينا في سوريا أن نبحث عن الشكل السياسي، سواء أكان فيدراليا أم غيره، على أن يكون مناسبا لنا بحيث يلبي تطلعات الانتماءات ولا يقمعها، وفي الوقت نفسه ينسج هوية وطنية حقيقية".
ويتابع: "فيدرالية سورية تعطي مساحة أكبر للمشاركة السياسية لكل السوريين بمناطق عيشهم ضمن ضوابط دولة مركزية، على ألا تكون قائمة على أسس طائفية أو عرقية، ومن الممكن التطوير باتجاه هوية وطنية جامعة وليس إلى تقسيم سوريا"، وفق قوله.
طائف سوري:
لا يبتعد كثيرا الأديب عماد طراد عن الطرح السابق، ويقول لـ"عربي21": "المسيحيون كانوا دائما مع خيار سوريا الواحدة، حتى الآشوريون والسريان في الجزيرة (الحسكة - شرق سوريا) لم يكونوا مع كيان مستقل في سوريا، وإنما مع كيان أكبر".
ويضيف: "أظن أن أغلب المسيحيين ضد فكرة الفيدرالية، فهم في الغالب متضررون؛ لأنهم يسكنون في كل سوريا، ما ينذر بعمليات تهجير وإبادة قادمة"، مستطردا: "المسيحيون بتوجهاتهم العلمانية الداعية لدولة مدنية ربما يكونون أقرب إلى دولة لا مركزية تعطي صلاحيات أكبر للمحافظات والأقاليم، دولة مدنية ديمقراطية تنضوي تحت خيمة الشرائع الدولية دون مواربة"، وفق تعبيره.
أما الإعلامي بسام الخوري، فيبدو أكثر وضوحا، حيث يرى أن "الفيدرالية تضر المسيحيين، فهم موزعون في كل سوريا، وسيقعون تحت حكم علوي أو كردي".
وقال الخوري إن ما يتمناه المسيحيون "دولة علمانية ديمقراطية مستقلة مع دستور 1950، وإعادة الفترة الذهبية 1954-1958، لكن أشك أن يتحقق ذلك"، مضيفا: "المسيحيون فقدوا الأمل بتعافي سوريا، ويحاولون الهجرة، ولو خيروا بين نظام الأسد وبين تنظيم الدولة وجبهة النصرة سيختارون الأسد الأقل سوءا"، كما يقول.
هذه الثنائية (النظام أو التنظيم) التي يطرحها البعض، يرى الخوري أن المخرج منها بمحاصصة طائفية و"طائف سوري"، على غرار اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.
لكن، لماذا لم يكن خيار الثورة حاضرا لدى المسيحيين قبل ما يسمى بـ"الأسلمة"، يقول "الخوري": "لا أعرف، لو أنهم وقفوا بغالبيتهم مع الثورة هل كان ذلك سيمنع أسلمتها؟ ربما كانوا بعيدي النظر وتوقعوا أسلمة الثورة وتطرفها، وهذا ما حدث فعلا"، وفق تعبيره.
وأضاف: "هم يجدون أنه صراع بين طرفين، ومن يكسب منهم سيعاملهم كمجموعه مهمشة، سواء طرف علوي أو سني".
لكن ماذا عن تجربة الخمسينيات التي أشار إليها؟ يستبعد الخوري تكرارها، فكما يقول، "لم يكن هناك تطرف، ولم يكن هناك مجزرة حماة، ولم تكن النفوس حاقدة على بعضها كما هو الحال الآن. العلوي يريد ضمانات تمنع عنه الثأر، هو يعرف بأنه تجبر وظلم وخراب.. في رواندا خلال أسابيع تم قتل 800 ألف من الأقلية التوتسية المتحكمة الظالمة، وهي تشبه العلويين"، بحسب وصفه.
المسيحيون الذين تختلف الإحصائيات في تحديد نسبتهم إلى عدد السكان، بين 8 في المئة و12 في المئة، يسجل التاريخ السياسي السوري المعاصر حضورا لعدد من الشخصيات، أبرزها فارس الخوري. أما في زمن الثورة فتحتفظ ذاكرة السوريين بالمخرج السينمائي الشاب باسل الشحادة الذي قضى خلال تواجده مع الجيش الحر في أحياء حمص القديمة، فضلا عن وجود شخصيات سياسية عريقة معارضة للنظام.
وفي مقاربته للموقف المسيحي العام مما يحدث الآن في سوريا، يقول ثابت سالم: "هم مثلهم مثل أي مكون اجتماعي في البلد، منهم المعارض ومنهم الموالي ومنهم المتفرج. الفارق الوحيد هو أنهم يخشون سيطرة جماعات مثل تنظيم الدولة أو النصرة أو أي تنظيم ديني، وهذا ما ينسحب أيضا على غيرهم من المكونات الاجتماعية السورية، ولكن بحساسية أكبر"، كما يقول.
ويقول بسام إسحاق إن "الأغلبية (من المسيحيين) مؤيدون للسلطة، ليس حبا أو قناعة بها، بل خوفا من أن يأتي بديل متطرف يصادر حتى الامتيازات القليلة لديهم، مثل العيش والعمل في جو آمن وحرية العبادة". لكنه يتابع قائلا: "المسيحيون السوريون، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين، لديهم اعتراض على مادة الدستور التي تحدد دين رئيس الدولة وتميزهم سلبا وتنتقص من مواطنتهم"، وفق تعبيره.