بدأت القصة منذ اعتلاء الجنرال حسني مبارك سُدة الحكم بعد أن سُمح بالتخلص من الرئيس أنور السادات باغتياله من أحد ضباط وجنود الجيش المصري في يوم الاحتفال بنصر أكتوبر الذي حوله الثاني إلى استسلام للكيان الصهيوني والقضاء على منظومة الجيش المصري التي بدأت بالتوقيع على ما يُسمى بمعاهدة "كامب ديفيد" .. وفي رواية أدق، معاهدة الاستسلام الخالص للكيان الصهيوني وتحويله من عدو إلى ألَد الأصدقاء والأحباب الذي وجب على المصريين التطبيع معهم في كل مناحي الحياة حتى يتم إفساد المجتمع المصري وتدمير بنيته العقائدية والاجتماعية والزراعية والاقتصادية وغيرها، فانعزلت مصر بعدها عن حضن الأم الأكبر الوطن العربي الذي تم تمزيقه رويدا رويدا بعد التوقيع على هذه المعاهدة البائدة، وطالت عدوى التطبيع باقي الدول العربية سرا أو جهرا. منذ ذلك الوقت وُضعتْ الخُطة لاستتباب حكم حسني مبارك أولا لمعاقبة رافضي هذه المعاهدة باعتقال الآلاف من الرموز الإسلامية بحجة الشراكة في إغتيال أنور السادات رغم أن القاتل وداعميه ضباط وجنود بالقوات المسلحة، لكنها فرصة عظيمة لنظام مبارك الداعم للكيان الصهيوني، والذي حصل لاحقا على لقب "الكنز الإستراتيجى لإسرائيل" لتأديب كل من تسول له نفسه بانتقاد معاهدة الاستسلام، وبالطبع لم يطل هذا العقاب الإسلاميين فقط، بل طال كذلك بعض قيادات الجيش الرافضة لهذا المشروع الانتكاسي مثل الفريق سعد الدين الشاذلي وغيره، وكذا العديد من الدبلوماسيين مثل إسماعيل فهمي، وزير الخارجية في ذلك الوقت، وغيره من الشرفاء.
أدار حسني مبارك الدولة بنظام التقسيم العادل، بين منظومة الجيش والشرطة، الجيش يستولي على المصانع الحربية وتوُزع إدارة المحليات ومصانع القطاع العام على لواءات الجيش المتقاعدين، وليس من المهم أن يكون لديهم الخبرة في إدارة هذه المؤسسات، المهم أن كل ضابط متقاعد أو أُقعد يجد له مكانا مناسبا بعد المعاش حتى لو دمره، وبالتالي ساعدت هذه المنظومة على تدمير مؤسسات الدولة، وانتشر الفساد في البر والبحر حتى صار "للرُكَب" كما قال زكريا عزمي، أما القسم الثاني فهو منظومة الشرطة التي انتفشت واشتهرت بالاستيلاء على مقدرات الشعب بنظام الإتاوات والبلطجة وخاصة في عهد الرجل القوي الذي توحش رجال الشرطة في عهده، وكان ذلك أحد أسباب انتفاضة 25 يناير التي ستتحول تدريجيا إلى ثورة، ولكن هذا الرجل القوي اعتمد على أسلوب السيطرة على العديد من رجال الأعمال بنظام تبادل المصالح والفساد المنظم، ووضع سكاكين أمن الدولة على رقاب الكبير والصغير في الدولة، وقد وصلتني معلومة مؤكدة من أحد المقربين له أن حصيلة دخل حبيب العادلي شهريا قُبيل انتفاضة 25 يناير متوسط 22 مليون جنيه، موزعة بين الراتب الأساسي وبدل مخاطر وإتاوات على رجال الأعمال والصناديق الخاصة وغيرها، وبالطبع هناك ملايين أخرى تصل إلى مساعديه وبعض القيادات الأخرى في الشرطة، لكن بالطبع أعلى مرتبات هي مرتبات ضباط وصف ضباط أمن الدولة، حيث أن راتب أمين الشرطة بأمن الدولة يتعدى راتب لواء بالترحيلات أو المطافئ مثلا، ثم إن كل ضابط يجد له المخرج المناسب لزيادة دخله، وقد أطلق العادلي أيادي الضباط وأمناء الشرطة وصف الضباط في ذلك بلا محاسبة، وأضيف أن العادلي جعل جهاز أمن الدولة يتحكم في كل شيء في الدولة بدءا من تعيين إمام المسجد إلى أستاذ الجامعة والعميد ورئيس الجامعة، ومن يذهب للحصول على شهادة الدكتوراه من الخارج، أو من يستحق أن يصبح أستاذ أو مدير لشركة قطاع عام، أو رئيس مجلس إدارة، أو من يتعين بالقنوات التلفزيونية أو الإذاعة التابعة للدولة، أما عن الانتخابات بكل أنواعها بدءا بالعُمد بالقرى ومجالس إدارة النوادي الرياضية والاجتماعية ومراكز الشباب حتى تصل إلى الانتخابات التشريعية. ويضاف إلى ما ذكرت أن ضباط أمن الدولة كانوا يمكلون ملف لكل ضابط مهم في القوات المسلحة، وأعتقد أن هذه كانت من أهم الأمور التي دعت المخابرات العسكرية بعد انتفاضة 25 يناير تسمح للمتظاهرين بإقتحام مقار أمن الدولة بطول البلاد وعرضها في لحظات متقاربة، وذلك كي تستولي المخابرات العسكرية على ملفات الضباط قبل أن يفرمها ضباط أمن الدولة.
وبعد أن تمكن العسكر بقيادة سامي عنان والطنطاوي من استغلال انتفاضة الشعب ضد الشرطة والديكتاتور مبارك بسحب هذه السطوة من الشرطة، وجعلوهم كالجرذان الهاربة وتخلوا جميعا عن زيهم الرسمي للإفلات من عقاب الشعب الثائر، ونزلت مدرعات الجيش الشارع بعد الساعة الرابعة عصرا يوم جمعة الغضب الثامن والعشرون من كانون الثاني/ يناير 2011، ورفعوا الشعار الخبيث "الجيش والشعب إيد واحدة" وللأسف العديد من أفراد الشعب أكلوا الطعم وصدقوهم.
ثم تم القبض على الرجل القوي حبيب العادلي من مكتبه بشكل مهين حتى يُسقطوا في عقول ضباط الشرطة وصف ضباطها هيبة رجل الشرطة القوي، وبعدها تم القبض على كل مساعديه كذلك في صور مهينة، ومن هنا بدأت لحظة سقوط هيمنة الشرطة وجهاز أمن الدولة على الشعب.
ولكن، نظرا لاحتياج العسكر إلى المنظومة الشُرَطية لاستكمال شكل الدولة حتى لو كان تحت قيادة عسكرية، وأنه لا يمكن إبقاء معدات وضباط وجنود الجيش بالشارع لفترة طويلة، وبالطبع ما تقوم به الشرطة لا يستطيع الجيش القيام به، وبالتالي تم التوافق مع الشرطة على نزول الشارع ولكن تحت أعين العسكر (المخابرات العسكرية)، ثم تم التعاون على مضض بعد أن فاجأهم الإخوان بترشيح د. مرسي وفوزه على مرشح العسكر أحمد شفيق، وفشلوا في تزوير هذه الانتخابات لأسباب عديدة نذكرها في مقام آخر إن شاء الله.
والآن، بعد فشل العسكر في إدارة البلاد بعد الانقلاب على مرسي، وبعد أكثر من عامين ونصف من اتفاق تم بين العسكر والمنظومة الشُرَطية على إسقاط حُكم الإخوان، دب الصراع الدفين بين أفراد الجيش والشرطة، ورأينا ذلك في تحدي ضباط الجيش للشرطة في كل شيء، وعدم الانضباط في الشارع، والخلافات التي تتم بينهما بشكل واضح، ورأينا ضباط الشرطة العسكرية تقبض على ضابط بالشرطة ومعه جنوده ويكدروهم في الوحدات العسكرية لأن ضابط الشرطة لم يتحدث بأدب مع ضابط الجيش، أو ربما طلب منه مثلا رخصة القيادة أو ما شابه ذلك.
وأتساءل، هل يمكن للشرطة أن تستعيد سطوتها على البلاد كما كانت فى عصر مبارك؟ هل يمكن لمجدي عبد الغفار – وزير الداخلية الحالي أحد تلامذة العادلي النجباء - استعادة مجد الشرطة ومجد حبيب العادلي وخاصة بعد أن أخرج المجلس العسكري العادلي من محبسه رغم الأحكام العديدة التي منحوها إياه؟ أو أن ما يحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان في السجون أو الشوارع هي محاولات لتشويه من يحكم البلاد، وزيادة حدة الغضب عند الشعب بجميع طوائفه لمحاولة الوصول إلى جمعة غضب أخرى، و الآن نرى علو صوت بانتقاد السيسي وحكومته حتى في القنوات الرسمية، مما يُنذر أن هناك تخطيط إما من المجلس العسكري لتشويه صورة السيسي لقرب التخلص منه، أو هي خطة من الشرطة (أمن الدولة) لتشويه صورة المنظومة العسكرية التي تحكم البلاد الآن، وبالتأكيد أنه صراع القطبين المسلحين في الدولة، الجيش والشرطة بأذرعهما، أيا كانت الحقيقة فكلاهما يقود البلاد إلى الهاوية، والضحية هم أفراد الشعب المكلوم، وعشرات الآلاف القابعين في سجون العسكر، أو العشرات أو مئات الآلاف من الهاربين والمطاردين داخل البلاد وخارجها، الله وحده يعلم المصير المنتظر لمصر خلال الشهور القادمة.
وقال الله تعالى :{بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ?تَحْسَبُهُمْجَمِيعًاوَقُلُوبُهُمْشَتَّى??ذَ?لِكَبِأَنَّهُمْقَوْمٌلَّايَعْقِلُونَ}