كتب عبدالعزيز المقالح: يعاني العالم في أجزاء كثيرة منه -وفي هذه الآونة خاصة- جهلا وتسطيحا شنيعا لمفهوم التعايش، وما يصدر عن ذلك من خلافات ومنازعات تصل في الأغلب إلى حالة من الاقتتال والتحارب والتخلي عن الشعور بالمسؤولية تجاه من كانوا إلى الأمس القريب أخوة في الوطن وأهلا نتقاسم معهم نسمات الهواء وقطرات المطر ورغيف الخبز بكامل الود والانسجام.
والمؤلم، بل المرعب أن ينتكس مفهوم التعايش لا بين الأقليات اللغوية والعرقية، بل بين أبناء القومية الواحدة والانتماء الضارب في جذور التاريخ. وهو ما يشير بوضوح إلى خلل في قيادات بعض الشعوب يصاحبه خلل مماثل في عقول مفكريها وقادة الرأي من أبنائها. وكيف فشلت كل المحاولات الرامية إلى رأب الصدع وترميم الجسور الجامعة والراعية لمبدأ العيش المشترك بين أبناء المكان الواحد واللغة الواحدة والتاريخ الواحد.
إن تصاعد الخلافات -هنا وهناك- بين الأقليات اللغوية والعرقية من جهة، والقومية من جهة ثانية، لم يأت من الفراغ، ولا حدث فجأة بين يوم وليلة، وإنما جاء نتيجة الشحن الخارجي المشبوه والشحن الداخلي المفتعل.
ولنا أن نعترف بوجود بعض الأسباب المؤدية إلى تصاعد قدر من الخلافات بين أبناء البلد الواحد، لكن أن تتجاوز حدها وتصل بالوطن إلى مرحلة التفتت والاقتتال، فذلك ما لم يكن مقبولا ولا مبررا. وإذا كان الواقع المريض في الوطن العربي قد أفرز «جوقة» من المحرضين والضالعين في تسميم النفوس وتدمير التجانس، فإن الاستجابة المفرطة لدى البعض تغدو مثار قلق ومصدر استنكار لا حدود لصرامته، حتى لا يتمادى المحرضون والضالعون في محاولاتهم وبث مفترياتهم والعبث بأهم قيمة من قيم المواطنة والتعايش الروحي والمادي.
ويبدو أنه عندما تطغى التحليلات النظرية في غياب شبه مطلق للوعي وتجاوز دراسة الواقع كما تكون بعيدة عن جادة الصواب، تتحول تلك التحليلات إلى خطاب سياسي مأزوم يعكس نفسيات أصحابه، ولا علاقة له بالحاضر، ولا صلة له بالماضي. وهذا بعض ما يشهده الراهن العربي ويعاني خلاصاته المبتسرة والزائفة، تلك التي تقوم على نتائج لا مقدمات لها، والتي تقرأ من كتب الآخرين عن واقع شعوب أخرى لا تشبه من قريب أو بعيد واقع شعبنا العربي الذي لا يشكو من غياب التجانس ولا من غياب الشعور المشترك بين أبنائه، وإنما يشكو من غياب العدالة الاجتماعية ومن عدم المشاركة في القضايا العامة.
ولا شك في أن المواجهة ستكون ناجعة، والرد على خصوم التعايش سيغدو أكثر نجاعة إذا تنبه القادة والنخب السياسية إلى أهمية ما يتطلبه الواقع العربي من توفر الحد الأدنى من الحرية السياسية والاجتماعية وتوسيع مساحة المشاركة.
إن التفسخ المحدود الذي بدأت تعانيه بعض أقطارنا العربية لا يزال في البداية، وفي الإمكان التصدي له قبل أن يستشري ويأخذ مداه المرعب، وإذا ما استشعر جميع من يمتلكون الوعي من أبناء هذه الأمة مسؤوليتهم التاريخية، وأدركوا حقيقة أنه لا مناص من التعايش، فإن إطفاء الحرائق الملتهبة في مناطق الصراع هو المدخل الصحيح إلى وطن عربي خال من الاضطرابات والنزاعات، وما يترتب عليها من إهدار لمقدرات الأمة وإيقاف نموها الاقتصادي والصناعي.
وسيكون من المؤكد أن حل الإشكاليات القائمة حاليا على المستوى القومي سيعمل على إزالة الاختلافات الناشبة مع الأقليات التي كانت لأزمنة طويلة جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني والاجتماعي لهذه الأمة التي فتحت صدرها لكل إنسان يؤمن بثقافة المحبة والتسامح والسلام العادل.
(عن الخليج الإماراتية)