فوجئ الكثيرون بزيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو الأخيرة إلى طهران، وبالتصريحات الإيجابية التي أطلقها خلالها، والتي دارت حول الدعوة لتعاون تركي -
إيراني لمكافحة "
الإرهاب" وحل مشكلات المنطقة بما يحول دون التدخلات الخارجية، والحقيقة أن أحد أهم أسباب هذه الصدمة هو عدم الإحاطة بالرؤية التركية لإيران وإطار العلاقة معها.
فما يظهر - وهو صحيح - أن البلدين مختلفان حد التناقض في مختلف قضايا المنطقة، بل يمكن القول إنهما في محورين متواجهين في عدد من الملفات والأزمات، لاسيما بعد التوتر الأخير بين إيران والمملكة العربية السعودية وفي ظل التعاون المضطرد بين أنقرة والرياض، بما يوحي بإمكانية قطع العلاقات والمواجهة المباشرة، فكيف تأتى لهما كل هذا الود الظاهر في العلاقة والبحث عن سبل التعاون المشترك؟!!
الحقيقة أن هناك عدة محددات رئيسية تصوغ رؤية
تركيا لإيران والعلاقة معها، أهمها:
أولا، إيران دولة إقليمية كبيرة وجارة لتركيا، وتقع في قلب "المناطق البرية" التي أشار لها داود أوغلو مثلا في كتابه "العمق الاستراتيجي"، كأهم المناطق التي يجب على تركيا أن تحافظ على علاقات جيدة ومتنامية معها، وقد أشار الرجل في كتابه إلى معلومة لها مدلولاتها المهمة وهو أن الحدود التركية - الإيرانية هي حدود تركيا الوحيدة الثابتة منذ مئات السنين.
ثانيا، إيران بالنسبة لتركيا جزء من المنطقة التي تجمع دولها مصالح مشتركة ومستقبلا واحدا، وتخضع لسياسة "تصفير المشاكل" - قدر الإمكان - مع دول الجوار. أكثر من ذلك فإيران إحدى ثلاث دول - إلى جانب مصر وتركيا - اعتبرهم داود أوغلو "مثلث المنطقة"، الذي لن تقوم لها قائمة دونه ودون التعاون بين أضلاعه الثلاثة.
ثالثا، هناك تخوف تركي واضح من النزاعات القائمة على أسس مذهبية - طائفية أو عرقية، باعتبارها مواجهات صفرية مدمرة للمنطقة ولا غالب فيها، والعلاقة الجيدة أو على الأقل غير السيئة مع طهران أحد صمامات الأمان أمام تطور مماثل.
رابعا، أهمية العلاقات الاقتصادية في الرؤية التركية رغم الخلافات السياسية مع مختلف الدول (فك الارتباط بين الاقتصاد والسياسة إن لم يمكن تطويع الثانية للأولى تماما)، وإيران مصدر مهم للنفط والغاز الطبيعي التركيين، بما يجعلها فاعلا مهما في معادلة أمن الطاقة التركي، فضلا عن تطلع أنقرة لأن تكون جزءا مهما من الاستثمارات المستقبلية في إيران بعد رفع الحظر الغربي عنها.
خامسا، قدرة إيران على تحريك ملفات خطيرة في الداخل التركي، في مقدمتها المشكلة الكردية والملف العلوي بما يشكل تهديدا كبيرا لتركيا، هي في غنى عنه في ظل الأوضاع الملتهبة أصلا في الداخل والإقليم.
سادسا، منطق العدالة والتنمية في إدارة الدولة والعلاقات الإقليمية، لاسيما في القضايا الخلافية، بما يشمل الإبقاء على العلاقات لإدامة القدرة على التأثير، والحرص على التصريحات الإعلامية والسياسية الإيجابية، رغم التطورات السلبية وتضارب المصالح، واعتبار أي طرف كان جزءا من مشكلة ما جزءا كذلك من حلها.
سابعا، الاشتراك مع إيران - إضافة لسوريا والعراق - في القلق من انعكاسات تطورات الملف الكردي في الإقليم، باعتباره تهديدا مشتركا لكليهما.
وعليه، فإن هذا التواصل والزيارات المشابهة تصب في سياق منع الأمور من الذهاب إلى مواجهة صفرية غير محمودة العواقب، والتركيز على المصالح والمخاطر المشتركة بين البلدين. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن الأزمة السورية كانت في صدارة قائمة المحادثات التركية - الإيرانية.
ولعل سيناريو التقسيم المحتمل في
سوريا هو الورقة التي تحاول أنقرة استثمارها لإقناع طهران بتغيير سياساتها في المنطقة، إذ إن تقسيم سوريا سيعني حكما ذاتيا أو إقليما كرديا - بالحد الأدنى - في الشمال السوري، سيرفع ولا شك من مستوى طموح أكراد تركيا أولا ثم أكراد إيران، وهو التهديد المشترك الذي تحاول تركيا اللعب على وتره.
من ناحية أخرى، تحاول تركيا استثمار الهدنة الحالية وحالة التراجع في الدور الإيراني في سوريا لمصلحة الدب الروسي، لتحذير طهران من خسارة سوريا - والمنطقة بالتبعية - تماما ونهائيا للتدخلات الخارجية ودعوتها للتوافق الإقليمي، (بما قد يشمل دولا أخرى في مقدمتها السعودية) على حلول تحفظ مصالح شعوب ودول المنطقة، وتحصنها في مواجهة سيناريوهات الاحتلال والتبعية والتقسيم والتدويل.
هذه ربما بعض أهم سياقات الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي إلى طهران، التي لا نتوقع أن تكون سارت بأريحية تامة ودون خلافات جوهرية مع الطرف المضيف، رغم التصريحات المتفائلة. وبذلك يبقى الزمن وما يحمله من تطورات ومتغيرات كفيلا بالحكم على نتائجها، ومدى صوابية الرؤية التركية التي توجه صانع القرار في أنقرة فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية مع طهران، وفيما يتعلق بالأزمة السورية ومختلف قضايا المنطقة.