نشرت صحيفة "إندبندنت" مقالا للكاتب روبرت فيسك، حول زيارة قام بها إلى
مخيم صبرا وشاتيلا، حيث يذكّر بالمذبحة التي حدثت في المخيم على أيدي حلفاء إسرائيل في أيلول/ سبتمبر 1982، التي ذهب ضحيتها 1700 مدني لا يزال قبرهم الجماعي موجودا تحت أكوام الطين، ويشير إلى أن اللاجئين السوريين يقومون ببيع القمصان الرخيصة وأشرطة "دي في دي"، مستدركا بأن اسم صبرا وشاتيلا ظل يرتبط بالعار الذي لم يستطع أحد أن يتخيله قبل 34 عاما.
ويشير الكاتب إلى ظاهرة جديدة في المخيم قائلا: "لكن بيع المخدرات، الذي يقوم به السوريون أكثر من الفلسطينيين، لوث سمعة المخيمات، كما وقعت حالات قتل، والأسوأ من ذلك كله البغاء، ولا أحد في صبرا وشاتيلا يخفي حزنه، فمن المذبحة ومعاناة وحزن من بقي منها إلى سنوات المعاناة وحصار
مليشيات أمل الشيعية، التي قتلت من الفلسطينيين أكثر مما قتلت إسرائيل، إلا أن ذلك لم يكسر الفلسطينيين، لكنك سرعان ما تفهم اليوم مدى عمق اليأس الذي يعانون منه".
وتنقل الصحيفة عن أحد القيادات المحلية في المخيم، قوله: "ماذا تتوقع عندما يعيش اللاجئون في هذا الفقر المدقع، حيث تتراجع النفقات أكثر فأكثر؟
اللبنانيون لا يسمحون للاجئين بالعمل خارج المخيم، وأموال المساعدات من الأمم المتحدة تقل شيئا فشيئا، والبعض لهم أقارب يعملون في الخارج يرسلون لهم المساعدات، وآخرون ليس لديهم أحد يساعدهم".
ويعلق فيسك قائلا إن "كلام الرجل صحيح، فحيث يعيش اللاجئون تصل المافيات، من مهربي البشر إلى الإثراء الجشع وسط المعاناة، كما فعلوا في البوسنة بعد حرب 1992- 1995، ووصل الفلسطينيون إلى صبرا وشاتيلا عام 1948، ولم يكن قبل مرور 70 عاما ومذبحة 1982 حتى وصل عار المخدرات والدعارة إلى المخيم، ولم يكن على النطاق الذي يثير الانتباه، لكن عددا بسيطا من النساء الفلسطينيات تركن المخيم، كان عليهن ترك المخيم حفاظا على سمعة العائلة، وانتقلن إلى أماكن أخرى في لبنان، مثل جونيه شمال بيروت، بحسب مسؤول سياسي في المخيمات".
ويضيف الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، أنه من هنا "وكوني شاهدا على المذبحة عام 1982، عدت مرات إلى هذا المكان المليء بالذكريات والأشباح، للحديث مع الناجين، فلا يبعد مخيما صبرا وشاتيلا أكثر من ميلين عن بيتي في بيروت، وكان هناك خمسة آلاف فلسطيني في المخيمين عام 1982، ولم يعد هناك على ما أعتقد سوى ثلاثة آلاف اليوم، وما لفت انتباهي عنوان في إحدى الصحف المحلية في بيروت يقول: (اسلاميان على دراجة نارية يطلقان النار على كهل فلسطيني ويرديانه قتيلا)، فهل يعني هذا أن عدوى
تنظيم الدولة أصابت صبرا وشاتيلا؟ وهل هذا يعني أن تنظيم الدولة أصبح في بيروت؟".
ويواصل فيسك قائلا: "عندما وصلت قيل لي إن الخبر المنشور في الصحيفة ليس صحيحا، وكان إعلان الحكومة اللبنانية بأن القتلة إسلاميون لتحسين صورة الحكومة؛ لأنها استطاعت اعتقال واحد من القتلة، فالحكومات العربية تصطف لتقول للعالم بأنها تحارب تنظيم الدولة، على أمل أن يعطي الغرب لقواتها مزيدا من السلاح، لكنني اكتشفت عدم صحة هذه القصة أيضا".
ويتابع الكاتب قائلا: "كان أحمد حزينة رجلا شريفا وليس مجرما، ووفر لأهل المخيم الماء النقي والكهرباء مقابل رسوم قليلة، لكنه أغضب مافيا محلية أرادت منه أن يجمع المزيد من الأموال من الفلسطينيين، وعندما رفض قتلوه".
يمضي فيسك قائلا: "عندما تجولت أنا وسهيل ناطور من الجبهة الديمقراطية في تلك الأزقة، واجهنا غضبا شديدا، فعندما رآني كهل أحمل كاميرا اندفع من باب حديد إلى الخارج، وقال: (كيف تتجرأون على التقاط صور لنا؟)، وصاح آخر: (كيف تتجرأون على إهانتنا؟ هل تعرفون أن المكان مليء بالفئران والجرذان الضخمة، ونعيش في هذا الغائط والمجاري والروائح الكريهة، وأصبح عندنا لصوص ومخدرات ودعارة؟)، وقال الكلمة (دعارة)، وكان يعرف معنى العار، فكان يصيح بغضب شديد، حتى عندما حاول سهيل تهدئته بوضع يده على كتفه دفعها".
ويستدرك الكاتب بأن "سهيل لاحظ شيئا آخر، فقد رآى لوحة لشهيد فلسطيني قتل حديثا، إنه أحمد حزينة، المعروف بأبي وسيم، الذي كان بيته قريبا منا، وكانت تقف شابة أمام باب البيت تستمع لنوبة الغضب، فقالت وهي تبتسم: (الناس غاضبون جدا هنا، نعم أحمد حزينة هو أبي، مات في 28 كانون الثاني/ يناير، قبل شهر، كان رجلا طيبا، وكان يساعد الجميع، قتلته المافيا، نعم هناك مخدرات ودعارة في المخيمات، لكن أبي اعتنى بي وبأخي وأختي، وكان يقول لي كل يوم يجب أن تتعلمي، وأرسلني للدراسة في إنجلترا، وذهبت إلى لندن ونيوكاسل)".
ويقول فيسك: "تحدثت نيرمين ذات الشعر الأسود عن مدى محبتها والابتسامة لم تفارق وجهها، ولاحظت كيف أثر فينا ذكر لندن ونيوكاسل، حيث كنت قبل نصف قرن مراسلا بخبرة قليلة أعمل للصحيفة المحلية، فكان ذلك يشبه نورا أضاء في عتمة المخيم ضوءا أكثر سطوعا من المصابيح التي كان يمدها أبوها بالكهرباء".
ويلفت الكاتب إلى أن "لغة نيرمين الإنجليزية كانت ممتازة، وتحدثت عن أملها بمستقبل أفضل، وقالت إن هناك بعض العدل، فقد قبض على أحد قاتلي والدها، وهو الآن في سجن رومية شمال بيروت".
ويورد فيسك أن "التهمة وجهت لمحمد القصار بالقتل، وينتظر المحاكمة، وذكرني هذا طبعا بأنه لم توجه آي تهم لاي عنصر من المليشيات المسيحية، الذين ذبحوا 1700 فلسطيني على مرأى من الإسرائيليين، ثم أدركت أن عمر نيرمين لم يزد على 26 عاما، أي أنها ولدت بعد المذبحة بأكثر من سبع سنوات".
ويختم فيسك مقاله بالقول: "لأن الفلسطينيين استطاعوا الحفاظ على هويتهم وصمودهم في هذا المكان البائس لهذه المدة الطويلة، فلا بد لهم من البقاء".