حين استفسرت جامعة في هولندا من المؤرخة باسكال غزالة عن إمكانية إرسال مجموعة من الطلاب إلى
مصر، أجابتهم بالنفي.
وقالت غزالة: "لا أعتقد أن هذا ضروري؛ لأنه بخلاف كل أشكال سوء الفهم التي يحتمل حدوثها، فإن المضايقات فاقت الحدود... قد تتعرضون أيضا للتعذيب والقتل أثناء عملكم البحثي".
فمقتل الطالب الإيطالي جوليو
ريجيني بعد اختفائه في 25 كانون الثاني/ يناير، يوم ذكرى الانتفاضة التي أنهت 30 عاما من حكم حسني مبارك، أثار
الرعب في المجتمع الأكاديمي بمصر وسواها.
ويقول باحثون في مصر إنهم عملوا لفترات طويلة وفوق أعناقهم سيف الاعتقال أو الترحيل، لكن الميتة البشعة لريجيني فاقمت المخاوف من أن يذهب السعي وراء المعرفة ضحية أقسى هجمة على الحريات في تاريخ مصر الحديث.
وكان ريجيني طالبا بجامعة كمبريدج عمره 28 عاما، وعكف على دراسة صعود النقابات العمالية المستقلة بعد انتفاضة 2011. كان هذا قبل العثور على جثة ريجيني وبها آثار تعذيب وكسور بجوار الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية، بعد تسعة أيام من اختفاء أثره.
وتقول جماعات مدافعة عن حقوق الإنسان إن مقتل ريجيني يحمل بصمات الأجهزة الأمنية، لكن مصر تنفي هذا الاتهام.
ويشير باحثون في مصر وخارجها إلى تاريخ من المضايقات تعرض لها زملاؤهم أثناء رصد النشاط العمالي في البلاد، وطالبوا بتحقيق مستقل يشمل احتمال تورط الشرطة أو أجهزة أمنية.
ولعب القمع المتكرر للاحتجاجات العمالية، في السنوات التي سبقت 2011، دورا في إذكاء المطالب بالتغيير، ومنحت الانتفاضة للحركة العمالية قبلة الحياة في محنتها، ووفرت لها استقلالا. لكن هذا الدور لفت انتباه السلطات للحركة العمالية كمحرك محتمل لتعبئة سياسية واسعة.
وقالت إيمي أوستن هولمز، أستاذة علم الاجتماع المساعدة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة: "أعرف عددا من الباحثين الآخرين الذين يعملون على قضايا مماثلة تعرضوا للاعتقال والاحتجاز، أو منعوا من دخول مصر، أو صدرت لهم أوامر بمغادرتها".
وأضافت: "كثيرون لا يدركون هذا... حيث جرت العادة أن يلزم أي باحث يتعرض لمثل هذه المضايقات الصمت؛ أملا في الحصول على تأشيرة دخول في المرة التالية".
وأصدرت رابطة دراسات الشرق الأوسط واسعة النفوذ تحذيرا إلى أعضائها، وعددهم 2700، بالتفكير مليا في خططهم للعمل في مصر، ووصفت وفاة ريجيني بأنها "نتيجة مأساوية متوقعة" لزيادة العنف والقمع ضد الباحثين.
وقالت في رسالة لأعضائها: "نعتقد بوجود ما يدعو للقلق الشديد فيما يتعلق بقدرة أي شخص على القيام بأبحاثه في أمان".
وتحدث بصيغة مماثلة لتلك الرسالة طلاب وأساتذة في الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث كان ريجيني باحثا زائرا. وأصدر هؤلاء بيانا احتوى على كلمات تأبين دامعة، الأربعاء، وطالبوا الجامعة بحماية حقهم في العمل بحرية وبأمان.
ويقول أساتذة إنهم الآن أمام معضلة: إما وقف عملهم الميداني في قضايا حساسة، أو مواصلة الأبحاث رغم ما يحيق بهم من أخطار.
وقالت حنان سبع، أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة: "نحتاج لتوضيح ما ينبغي القيام به. هل بمقدورنا عمل أبحاث، أم أن علي فرض رقابة على طلابي؟ هذا أمر بالغ الحساسية، سواء للمصريين أو الأجانب".
أسوأ أشكال القمع
واجه أساتذة وباحثون في مصر ضغوطا قبل 2011، لكنهم يقولون إن القيود آخذة في الازدياد خلال العامين الماضيين.
وتتهم جماعات مدافعة عن حقوق الإنسان حكومة عبد الفتاح السيسي بارتكاب إساءات على نطاق واسع، وهي تهم تنفيها الحكومة.
وكان السيسي وزيرا للدفاع قبل الانقلاب على الرئيس محمد مرسي في 2013. وبعدها قتلت قوات الأمن المئات من أنصار مرسي، وسجنت الآلاف. واعتقل بعد ذلك نشطاء علمانيون أيضا.
وأُغلق كذلك عدد من منظمات المجتمع المدني، ويقول منتقدون إنها محاولات لسحب الحريات التي وفرتها انتفاضة 2011.
وعندما اعتُقل فيليب رزق، وهو طالب يحمل الجنسيتين المصرية والألمانية، أثناء مظاهرة دعما لغزة في 2009، قال إن عينيه عُصبتا، وخضع لتحقيقات لأربعة أيام، لكنه خرج في النهاية سالما من الأذى، وسُمح له بمواصلة دراسته الجامعية.
لكن قوانين سُنت في 2014 حظرت على الطلاب ممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي في الجامعات الحكومية. وللرئيس الآن أيضا حق التصديق على تعيين كبار الموظفين، وإبعاد الباحثين ممن لا يسيرون على الخط السياسي ذاته.
وليست الضغوط ببعيدة عن الباحثين في الجامعات الخاصة.
ففي 2014، فر عماد شاهين، وهو باحث يحظى بالاحترام، وأستاذ سياسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، من البلاد، بعدما اتهم بالتجسس؛ لمعارضته الانقلاب على مرسي. وبعدها حكم عليه بالإعدام غيابيا.
ويقول شاهين -وهو الآن في الولايات المتحدة- إنه لا ينوي العودة لمصر إلى أن تتوفر له ضمانات بمحاكمة عادلة.
وأضاف: "الموقف الذي تمر به مصر حاليا في غاية الأهمية لكثير من الباحثين ومجالات البحث. العجز عن دراسة هذه الأشياء التي تحدث لأول مرة يمثل خسارة كبيرة".
لكن الطلاب والأساتذة يواصلون التحدي. وخلال أمسية في الحرم الشاسع للجامعة الأمريكية في القاهرة، علق الطلاب لافتة كتب عليها "مقتل جوليو ليس حادثا منفصلا. هالة الجامعة الأمريكية بالقاهرة لن تحميكم".
وفي كلمتها خلال أمسية تأبين ريجيني، قالت باسكال غزالة إن مؤرخين وباحثين آخرين خضعوا للتدقيق من قبل الأمن في سعيهم للوصول للأرشيف الوطني.
وأضافت: "الجديد فيما تعرض له جوليو من تعذيب وقتل هو سقوط آخر المحرمات".
"لذا فالطبقة التي ينتمي إليها الشخص لن توفر له حماية مثلما اعتاد.. العلاقات لن توفر لأحد حماية مثلما اعتاد.. ولا حتى الجنسية ستحمي أحدا".