لو استثنينا الاستراتيجية الأمريكية طوال ثلاث السنوات الماضية في شرقي آسيا حيث أظهرت مستوى من التماسك والاستمرارية، لوجدناها مضطربة أو متناقضة في أغلب المناطق والقضايا الأخرى. بل يمكن القول لا استراتيجية متماسكة لدى أمريكا إزاء أي قضية من القضايا الأساسية الملتهبة، عدا استراتيجيتها إزاء الحشد الآسيوي لحصار الصين وتطويقها.
فمنذ ثلاث سنوات، أمريكا مواظبة عسكريا وسياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا على إعطاء الأولوية لمواجهة الصين، وذلك بالرغم من استمرار العلاقات الإيجابية بينهما في المجال الاقتصادي، وما عبّرت عنه بعض الزيارات المتبادلة. ولكن مع ذلك هنالك استمرارية ومواظبة على حشد الحلفاء الآسيويين حولها ما أمكن ضدّ الصين، وذلك قبل الانتقال إلى سياسات الاحتواء والتوتير و"الحرب الباردة".
ما يهم أكثر، هو قراءة السياسات الأمريكية إزاء القضايا الملتهبة في منطقتنا
العربية – الإسلامية؛ وهي قراءات متناقضة؛ فهنالك القراءة التي تعتبر أن كل ما شهدته البلاد العربية خلال خمس السنوات من الثورات والثورات المضادة، ومن فوضى وانقسامات وصراعات كانت وراءه وعرّابته؛ فكل خيوط اللعبة بيدها وهي تحرّك البيادق أو توحي بتحرّكها.
وهنالك القراءة التي ترى أن أمريكا فقدت سيطرتها عالميا وإقليميا وعربيا، وتشهد على ذلك جملة الأحداث التي عرفتها البلدان العربية والعلاقات بتركيا وإيران؛ فقد كان الدور الأكبر فيها للعوامل الداخلية والعربية والإقليمية. أما الدور الأمريكي – الأوروبي فكان في مرتبة ثالثة أو رابعة من حيث الأهمية أو حتى أضعف من ذلك.
وجاء الدور الروسي في سوريا لإنزال دور أمريكا وأوروبا إلى مرتبة أدنى.
هاتان القراءتان تجدهما في أغلب المقالات الجادّة التي تحاول أن تقرأ السياسات الأمريكية في هذه المرحلة على حقيقتها، فهنالك المقالات التي تتهم إدارة أوباما بأنها انسحبت، أو راحت تعمل على الانسحاب، من المنطقة، وقد تخلت عن حلفائها وخذلتهم. وهذه المقالات تجدها، بصورة صارخة، في جريدة الحياة اللندنية- السعودية. وهنالك المقالات التي ترى أمريكا وراء كل الأحداث والظواهر بما في ذلك داعش والنصرة، كما في التدخل العسكري السعودي في اليمن وإسقاط الطائرة الروسية من قِبَل تركيا، وهذه المقالات تجدها في عدد من الصحف اللبنانية.
هذا وتجد هاتين القراءتين مبثوثتين في القنوات الفضائية وفقا لكل قناة والتزامها العام.
والعجيب أن كلا من القراءتين تتناقضان مع نظرتهما آنفة الذكر عند تحليل موقع أمريكا في ميزان القوى العالمي؛ فأصحاب القراءة التي تعتبر أن أمريكا وراء كل الأحداث التي تقع في المنطقة يُقرّون ويُعلنون أنها أصبحت أضعف في ميزان القوى العالمي، وأنها في حالة تراجع عام. ولكن عند الانتقال إلى تحليل سياساتها في كل قضية يقدّمونها باعتبارها أقوى عما كانت عليه في الماضي، إلى حد أنها تملك كل خيوط اللعبة فلا شيء يحدث من داعش أو النصرة مثلا إلاّ وهي وراءه، ولا
سياسة تبدر من السعودية أو تركيا مثلا أيضا إلاّ وهي وراءه. أما في المقابل فإن أصحاب القراءة التي تتهم أمريكا بالانسحاب أو في طريقها للانسحاب وقد تخلت عن حلفائها، تجدهم عند تحليل ميزان القوى يقدّمون أمريكا باعتبارها القوّة العظمى الأولى وهي صاحبة القول الفصل. ولكن عند تحليل سياساتها إزاء القضايا المهمة، فهي مستسلمة للروس في سوريا ومتخليّة عن السعودية في اليمن وتقف مع الكرد ضدّ تركيا.
فالقراءتان تعتبران أن ميزان القوى العام شيء والترجمة الواقعية للسياسة شيء آخر. طبعا هذا التناقض لا ينبع من جهل أو عدم تماسك غير مقصود، وإنما وراءه حرص أحدهما على إبقاء أمريكا هي القوّة الكبرى الأقوى بالرغم من خذلانها لحلفائها ليعزّز انتسابه لها، ويهمّه أن يقدّمها باعتبارها الدولة الكبرى الوحيدة العظمى. أما ثانيهما فهو يريد خدمة هدف التحريض في القضايا الجزئية؛ لهذا يعتبرها وراء الأحداث، فيما هو يمارس كأن أمريكا غير موجودة أو يتخطى كل الخطوط الحمر في مواجهته لتلك الأحداث.
فعندما حلّلت القراءتان
الاتفاق النووي، اتجهت القراءة التي تعتبر أمريكا وراء كل الأحداث إلى إبراز تراجعها أمام قوّة
إيران. بل وقدّمت التنازلات. أما القراءة التي اعتبرت أمريكا منسحبة من المنطقة، فقد اعتبرت أن أمريكا عقدت صفقة مع إيران وأنها في طريق التحالف مع إيران.
وعندما تدخلت روسيا عسكريا في سوريا اعتبر الذين يرون أمريكا ممسكة بكل الأحداث بأن القرار الروسي اتخذ بالرغم من أمريكا، وفرض نفسه عليها ووقف إلى جانب المحور المضاد لأمريكا، أي أمريكا متراجعة هنا أيضا. ولكن الذين اعتبروا أمريكا منسحبة من المنطقة وقد خذلت الشعب السوري فيعتبرون أن روسيا ما كانت لتجيء إلى سوريا من دون موافقة أمريكا والتفاهم معها. فمرّة أخرى هنا يظهر التناقض أو عدم التماسك بين تحديد وضع أمريكا في ميزان القوى وبين إنزال هذا التحديد في التطبيق العملي على حدث بعينه أو أحداث بعينها.
وثمة قراءة منهجية ثالثة تجد علاقة مباشرة بين ضعف أمريكا في ميزان القوى العام من جهة وسياستها إزاء مختلف القضايا من جهة أخرى؛ لأن من غير الممكن ألاّ تعكس سياساتها الجزئية ضعفها العام في ميزان القوى. أو ألاّ يعكس ضعفها العام في ميزان القوى نفسه على سياساتها الجزئية المُرتبِكة هنا وهناك.
فالفوضى العامّة التي أخذت تحلّ في البلاد العربية ليست نتاج قوّة أمريكا وسيطرتها على الأحداث. بل العكس؛ هي نتاج ضعف قوّة أمريكا وعدم سيطرتها على الأحداث، والدليل أن أمريكا عندما كانت قويّة ومسيطرة على ميزان القوى العالمي، أو مسيطرة في الأقاليم التي تسيطر عليها، كانت تفرض الاستقرار والنظام للحكم، ولم تكن الفوضى تمثل مصلحة لها؛ فالفوضى في مصلحة الضعفاء الذين يريدون أن يخرجوا من السيطرة.
ولهذا لا يمكن أن تُفسَّر الفوضى السائدة بمختلف تجليّاتها إلاّ بفقدان وجود قوّة مسيطرة عليها، ولا يمكن أن تُفسَّر سياسات الدول في تلك الفوضى إلاّ ضمن درجة أعلى من الاستقلالية عن أمريكا؛ وذلك ما دامت لا تستطيع الدفاع عنهم ولا تملك استراتيجية متماسكة، تعمل على فرضها بالقوّة حين تعجز عن فرضها بالضغوط أو الإغراءات.
هذه النظرة أو القراءة للسياسات الراهنة، هي التي تفسِّر سياسات كل الدول التي كانت إلى وقت قريب تعمل ضمن الاستراتيجية التي رسمتها أمريكا، وقد راحت الآن توسّع من هامش سياساتها الذاتية إلى حدّ يمكن اعتبارها متناقضة أو مختلفة عن السياسات الأمريكية، وهذا ما يمكن أن يُلحظ في السياسات الإسرائيلية ونقاط فراقها أو تقاطعها مع السياسات الأمريكية. وكذلك بالنسبة إلى تركيا الأطلسية، والسعودية ودول أخرى كما يُلحَظ ذلك عند تحليل الاتفاق النووي مع إيران.
إن ضعف السياسة الأمريكية وفقدانها السيطرة على الأحداث يمكن قراءته بصورة دقيقة من خلال التدخل العسكري الروسي في سوريا، والدور السياسي الأبرز الذي أخذت تؤديه روسيا في المفاوضات حول سوريا. وما تُهَيّئ لِتأديته على مستوى أوسع.
والأمر نفسه يمكن أن يُلحظ من الدور المتعاظم لإيران؛ سواء أكان في الاتفاق النووي، أم كان في كسر الحصار الدولي، ولا سيما الغربي عن إيران وذلك إلى جانب دورها الإقليمي في المنطقة العربية – الإسلامية.
وكذلك بالنسبة للسياسات التركية والمصرية والسعودية وحتى الإماراتية والقطرية؛ حيث أصبح من غير السهل تحديد أين تقترب من السياسات الأمريكية في مقابل ملاحظة ظاهرة ابتعادها عن السياسات الأمريكية، وحتى وهي غير راغبة في ذلك.
يخطئ في تقدير الموقف من يعتبر حصار النظام المصري لقطاع غزة جاء نتيجة عمالة لأمريكا، أو الكيان الصهيوني، بالرغم من أن هذا الحصار يقدّم للكيان الصهيوني أفضل خدمة، أو يدخل ضمن دائرة السياسات الأمريكية التي تعتبر المقاومة، حماس والجهاد، في قطاع غزة منظمتين إرهابيتين، فهذا الحصار الذي يهدف إلى تجريد قطاع غزة من السلاح أو يضغط عليه للاستسلام، يُلحِق أشدّ الأضرار بالأمن القومي المصري نفسه. ولكن بالرغم من كل ذلك فإن الدافع وراء هذا الحصار سياسات يتبنّاها نظام الرئيس السيسي لاعتبارات ذاتية هو بالذات وراءها بالرغم من أنها خاطئة وضيّقة أفق وضارّة به وبنظامه، ويفيد منها الكيان الصهيوني إفادة كبرى.
ويخطئ في تقدير الموقف من يعتبر قرار إسقاط أردوغان للطائرة الروسية جاء بإيعاز من أمريكا، أو تنفيذ لقرار أمريكي. وذلك بالرغم من إفساده العلاقات الروسية – التركية وهو ما يخدم أمريكا، أو يمكن أن تفيد منه أمريكا. فهذا القرار صاغته القيادة التركية السياسية والعسكرية، وجاء لاعتبارات مستقلة اعتبَرَها أردوغان تحتم ذلك، بالرغم مما نجم عنها من أضرار سياسية واقتصادية في غير مصلحة تركيا.
ولعل ملاحظة محاولة أردوغان الالتقاء ببوتين من أجل لفلفة المشكل والحيلولة دون ردود أفعال روسية ضارّة بالطرفين، لتؤكد صحة تقدير الموقف الذي رفض اعتبار قرار إسقاط الطائرة الروسية قرارا أمريكيا، حتى لو سوّغته أمريكا باعتباره خرقا للسيادة التركية. ولكنها في الوقت نفسه مضت في تعزيز علاقاتها الإيجابية بروسيا تاركة تركيا لتقلع شوكها بأيديها. والأغرب أنه قرار لم يصدر عن سياسة مبيّتة للصراع مع روسيا، بدليل ما ذُكِرَ من محاولة الالتقاء ببوتين لتلافي الصراع الحاد.
ويخطئ في تقدير الموقف كذلك من يعتبر القرار السعودي بالتدخل العسكري في اليمن من خلال قصف جوّي مدمّر قرارا أمريكيا تنفذه السعودية؛ وذلك بالرغم من تبليغ السعودية أمريكا بقرارها سواء أوافقت عليه أم تحفظت، وبالرغم من إمداد أمريكا للطيران السعودي بإحداثيات توجّه جزءا كثيرا أو قليلا من الأهداف، فالقرار في منطلقه وأساسه سعودي، وكانت السعودية ذاهبة إليه سواء أوافقت أمريكا عليه أم لم توافق. طبعا لم يكن لدى أمريكا هنا حافز لتضع كل ثقلها لتفرض على السعودية عدم الإقدام على تلك الخطوة. بل إن مشاركتها في تقديم معلومات توجّه جزءا من القصف لا تُغيّر من تقدير الموقف باعتبار القرار في أساسه سعوديا، ولا يُعالَج إلاّ مع السعودية حربا أو سلما.
وعليه قس الكثير من السياسات التي تحكم الصراعات في البلاد العربية؛ حيث أصبح الدور الداخلي والعربي والإقليمي (التركي – الإيراني) هو الأقوى في إدارة الصراعات التي اندلعت ما بعد 2010، فيما تراجع إلى حد كبير الدور الأمريكي – الأوروبي قياسا لما كان عليه من 1917 إلى 2010. ولكن يجب بعد القرار الروسي بالتدخل العسكري في سوريا، أن يُدقَّق جيدا في إدخاله كعامل جديد مؤثر في المعادلة المذكورة في هذه الفقرة. ولكن إلى أي حد سيكون تأثيره مقارنة بالعوامل الداخلية والعربية والإيرانية والتركية؟ هذا ما سيتحدّد على ضوء تطوّر الصراعات في سوريا.
صحيح أن هذه القراءة الثالثة تختلف عن القراءتين الأوليين اللتين تم عرضهما في مقدّمات هذه المقالة؛ فهي خارجة عن المألوف من جانب القراءتين، سواء على المستوى الاستراتيجي في تحديد موقع أمريكا في ميزان القوى العالمي من جهة، وترجمة ذلك عند قراءة سياساتها إزاء هذه القضية أو تلك من جهة ثانية.
إن التقدير الصحيح في قراءة موازين والأحداث، كما التقدير الخاطئ يؤثر في إدارة الصراع دفاعا أو هجوما. ومن ثم حصد النتائج. ولهذا فهو ليس بترف وإنما ضرورة للقوى المناهضة لأمريكا والكيان الصهيوني من جهة، ولكل من يعالج ما نجم من صراعات داخلية بما فيها تصفية الظواهر السرطانية. ولا سيما إذا كان هدفه الخروج أولا بنزع فتيل الصدام في ما بين الدول العربية والإسلامية، وثانيا البحث عن توافقات لإعادة بناء نظام عربي – إسلامي (إيراني-تركي) جديد، على أنقاض ما تهدّم من نظام أرسى أسسه سايكس- بيكو ووعد بلفور ما بعد الحرب العالمية الأولى وكرّسته الدول الكبرى ما بعد الحرب العالمية. الثانية.