قد يفشل الإنسان بوضع هدفه، لكن الدول لا تخطئ أهدافها، سواء كان هدفها سعادة مواطنيها ورفاههم حاضرا أو مستقبلا. إنني أتفهم سعادة تلك اللاجئة وهي تقول للمذيعة بأنها سعيدة ومحظوظة أن تجد وأسرتُها هذا المخيم بعد رحلة عذاب طويلة لم تنتهِ غرقا في البحر ولم تبتدئ بعبور حدود أربع دول أوروبية ولم تفقد كل أفراد أسرتها قبل أن تصل لهذا المخيم الذي يغص باللاجئين تحت ظروف طقس قاسية وصعبة للغاية. وأتفهم تدهور الحالة النفسية لأحد الأثرياء بعد انكساره في سوق الأسهم قبل سنوات.
فالسعادة لكل إنسان لها جانبان نفسي يتعلق به هو، واجتماعي يتعلق بمن حوله وما حوله. لكن لا أحد يعرف إكسير السعادة أو وصفة سعادة واحدة تناسب البشرية جمعاء، فالفقير يعتقد أن السعادة بالغنَى، والمريض يراها بالصحة، والأمي يراها بالتعليم، والعاطل يجدها بالعمل. بالمقابل لا يعرف بعضنا ما إذا كان سعيدا أم تعيسا، إلا حينما يفقد تلك السعادة أو مصدرها. بعضنا الآخر، لا يعرف ما إذا كان سعيدا إلا بما يبديه له أقرانه وأصدقاؤه وأقاربه ومعارفه من غبطة لما هو فيه وعليه من نجاح أو ثراء أو جاه أو غير ذلك فتتحقق سعادته.
يمكن القول بأن هناك نوعين من الناس في كيفية الإحساس بالسعادة. هناك نوع يرى السعادة أفقية فلا تتحقق سعادته إلا بمقارنة ما لديه وما هو عليه مع ما لدى غيره وما هو عليه هذا الغير خاصة الأقران والأصدقاء والأقارب والمعارف، بينما يرى النوع الثاني السعادة رأسية لا علاقة لها بالآخرين ويشعر بالسعادة في هذه الحالة من خلال ما يتحقق من طموحاته وتطلعاته مقارنة بما تعذر من تلك الطموحات واستعصى على الإنجاز.
لكن ليس لطموحات الإنسان حدود وليس لتطلعاته سقف، فكلما تحققت طموحاته ذهب أبعد بطلب ما بعدها وما فوقها من طموحات وتطلعات، والأمر نفسه ينطبق على الدول، فتكبر الدول وتقوى المجتمعات بقدر ما تكبر وتقوى طموحاتها، لكي تحقق سعادة ورفاهية مجتمعاتها ومواطنيها، وهذا ربما هو ما جعل معهد كاتو الأمريكي كمؤسسة أبحاث اقتصادية يبتكر مؤشر البؤس العالمي، وهو مؤشر لقياس ثلاثة عناصر اقتصادية: معدلات البطالة، وسعر الفائدة على القروض الشخصية، وتضخم الأسعار، ويضم 90 دولة عالميا، وقد جاءت المملكة رقم 40 بين هذه الدول.
في الحقيقة إن العناصر الثلاثة بالغة الأهمية بالتأكيد في كل اقتصاد ومع كل اقتصاد، لكنها ليست كل الاقتصاد، فضلا عن أن الدول ليست فقط اقتصادا فهناك عناصر غير اقتصادية لا تقل أهمية عن العناصر الثلاثة تأثيرا على مؤشر التعاسة. لكن المثير للدهشة والإعجاب بهذا المؤشر هو أنه ينطلق من الزاوية السلبية للدول، ويجعل التنافس بين الدول في أيها يكون في ذيل قائمة التعاسة.
في المقابل، ومن زاوية إيجابية قد تكون مبادرة أكثر شمولية وأوسع نظرة أعلن حاكم دبي سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عبر حسابه في تويتر الأسبوع الماضي أن بلاده استحدثت منصب وزير دولة للسعادة، تتمحور مهمة هذه الوزارة في مواءمة خطط الدولة وبرامجها في إسعاد المجتمع. فهل تكون هذه التجربة نموذجية يمكن أن تحذو حذوها دول أخرى؟ مع أن هناك تجربة مماثلة قد سبقت هذه التجربة في فنزويلا سنة 2013 بإحداث وزارة السعادة الاجتماعية.
هل يمكن تحديد مفهوم السعادة من وجهة نظر المجتمع والدولة بشكل منسجم أو مختلف عن مفهوم السعادة التي يراها الفرد ؟ هل تكون السعادة في الجانب المادي دون الجانب المعنوي؟ ما الذي يمكن أن تحققه وزارة السعادة أكثر من الرخاء المادي للمواطن؟ هل تحتمل السعادة أكثر من معنى في أكثر من مكان وأكثر من زمان ؟ وهل يمكن أن تعمل هذه الوزارة بمعزل عن بقية الوزارات التي ترى أنها تعمل لتحقيق نفس الهدف ؟ هل لو قامت الوزارات بمهامها على الوجه المطلوب لأغنى عن وزارة السعادة ؟ هل ممكن حصر السعادة العامة في حرية الإنسان وكرامته وصحته وتعليمه ؟ هل من الممكن اعتبار التنمية بمعناها الشامل بديلا أو مساويا للسعادة المجتمعية العامة ؟ هل السعادة منتجٌ محلي لمجتمعاتنا أم أنه عنصرٌ مستورد ؟ هل مجتمعاتنا العربية وثقافتنا العربية صديقة للسعادة ؟ هل نحن شعوب على وئام وانسجام مع السعادة ؟ هل الظروف التي تعيشها منطقتنا بعد الاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الأمريكي للعراق وبعد زلزال الربيع العربي وبعد الحروب الأهلية والطائفية في أكثر من بلد عربي هل هي ظروف قابلة أن تنتج سعادة على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع والدول ؟ هل من الممكن أن يعيش الإنسان في جنة محاطة بألسنة اللهب ؟
أسئلة تسيل لعاب المستقبل ولا شك أن قرار سمو حاكم دبي هو قرار جريء ومثير للدهشة والترقب، والتحدي في مجتمعات يسكنها الخوف، ويحكم طوقه حول قرارات الفرد وقرارات المجتمعات وقرارات الدول.
من المؤكد أن السياسيين أكثر تفاؤلا بقراراتهم من نظرائهم الاقتصاديين، حتى لو كانوا في قرارات أنفسهم غير ذلك، لكن حاكم دبي قيادي سياسي واقتصادي في آن واحد وهذا هو التحدي.
عن صحيفة عكاظ السعودية