1-
حتى الآن، لم أستطع الإجابة عن هذا السؤال: لماذا لم يُقدم
نظام مبارك قتلة خالد سعيد للمحاكمة سريعا ويتجنب كل هذا الغضب؟
كان يمكن ألا يخسر النظام البائد من الجريمة، بل ويخرج منها منتصرا إذا قرر عزل فردي الشرطة المتورطين وإحالتهما لمحاكمة عاجلة، والتأكيد على أن الدولة لا تتستر على أي مخالف للقانون، لكنه واصل العناد للنهاية، وورّط كل أجهزة الدولة تقريبا في جريمة كان يمكن أن يتحملها فردا شرطة فقط، لسبب لا أعلمه حتى الآن رغم تعدد التفسيرات والتأويلات.
ربما يتعلق الأمر بخوف نظام مبارك من فكرة المحاسبة عموما، وأنه إذا سمح بها لأمين شرطة اليوم سيسمح بها لوزير غدا وقد تطاله بعد غد، ربما يتعلق بعناده وسيره طوال الوقت عكس رغبات الناس، وربما يتعلق بخوفه فعلا من إمبراطورية
أمناء الشرطة القادرة فعلا على إحراج/ إسقاط أي نظام.
أصر نظام حسني مبارك على أن يربط مصيره بمصير فردي شرطة، فسقطا معا.
2-
في 28 يناير الماضي، استقبلت مستشفى المطرية مصابا بجرح قطعي بسيط في الجبهة، وطلب من الطبيب تقريرا طبيا غالبا ليتمكن من الحصول على إجازة مرضية طويلة، لكن الطبيب رفض، لأن الإصابة لا تستدعي ذلك، ولم يكن يعلم أن المصاب الواقف أمامه ليس مواطنا عاديا لكنه يحمل جنسية دولة حاتم الشقيقة التي يعتقد مواطنوها أن طلباتهم أوامر ورغباتهم قوانين.
اعتدى الأمين على الطبيبين بالضرب حتى كسر نظارته، واستدعى ثمانية من زملائه حضروا إلى المستشفى فسحلوا الطبيبين واصطحبوهما إلى قسم الشرطة ثم احتجزوهما بموافقة ضباط القسم، قبل أن تنتشر الواقعة بكثافة ويضطروا إلى إخلاء سبيلهما.
التصرف الذي كان طبيعيا أن تتخذه الدولة بعد افتضاح الأمر وتصعيد الأطباء هو التضحية بالأمناء خاصة أنهم أجرموا فعلا، وخاصة أن تجربة خالد سعيد مازالت ماثلة، وخاصة أن اليوم الذي حدثت فيه الواقعة (28 يناير) يحمل ذكرى سيئة للشرطة ساقتها إليها أخطاؤها وجرائمها التي كان أمناء الشرطة دوما في القلب منها.
لكن الدولة لم تفعل، تصرفت بمنطق لص أمسكه الأهالي فدخل برأسه في الحائط واتهم الأهالي بضربه ليكون محضره في مقابل محضرهم، حرر الأمناء محضرا، أمّن عليه ضباط شرطة طبعا، اتهم الأطباء بالاعتداء عليهم، وقال الضباط للطبيبين – بحسب شهادتهما – إنه في حالة عدم تنازلهما عن حقهما سيبيتان في الحجز بجانب أمناء الشرطة، وبالطبع اضطر الطبيبين للتنازل لأنهما يلعبان مباراة غير متكافئة مع الأمناء في عقر دارهم.
واصلت الدولة مساندة الأمناء، الأحرار حتى الآن، في مواجهة الغضب المتصاعد من نقابة الأطباء، وتحملت إحراجا كبيرا أمام الإعلام والرأي العام والبرلمان لأنها لا تريد تقديم الأمناء للعدالة وتقدم تنازلات جزئية من نوعية إحالتهم للتحقيق الإداري والوعد بمعاقبتهم، وهي خطوات لا ترضي الأطباء الذين شعروا جميعا بالإهانة بعدما وضع الأمين حذاءه على وجه زميلهم.
وبينما هذه السطور تُكتَب، كان المحامي العام لنيابات شرق القاهرة يقرر إعادة تشغيل مستشفى المطرية ويكلف الهيئة العامة للمستشفيات التعليمية بإرسال أطباء لفتح المستشفى وتشغيله، وبدلا من التحقيق مع الأمناء وحبسهم، أمر المحامي العام باستدعاء مدير مستشفى المطرية لسؤاله عن عدد الأطباء الذين امتنعوا عن تأدية الخدمة للمواطنين.
وكشفت تحقيقات شريف مختار، رئيس نيابة المطرية، أن أطباء مستشفى المطرية قاموا بإغلاقه في وجه المرضى، ورفضوا متابعة الحالات التي ترقد داخل المستشفى، كما رفضوا استقبال الحالات الطارئة والحرجة بقسم الطوارئ، وامتنعوا عن العمل منذ أسبوع حتى اليوم.
إصرار غريب على التضحية والمخاطرة في حماية فصيل هو – نظريا – أضعف حلقة في منظومة الشرطة.
3-
في 22 أغسطس الماضي، قرر المئات من أمناء الشرطة بالشرقية الاعتصام أمام مديرية الأمن لرفع 20 مطلبا تخص حقوقهم المادية، ورغم التعامل العنيف مع أي فعالية سياسية أو فئوية اتبعت الدولة سياسة التفاوض والاستعطاف مع الأمناء الذين أغلقوا أقسام الشرطة بالمحافظة وحاولوا اقتحام المديرية أكثر من مرة ونصبوا الخيام في الشارع.
وفي اليوم الثالث، أعلن الأمناء فض الاعتصام طواعية بعدما وعدهم رئيس الوزراء إبراهيم محلب، شخصيا، وقيادات الداخلية، بتنفيذ جميع مطالبهم وفق ما أعلن عنه وقتها وليد المحمودي، المتحدث الرسمي باسم نادي أفراد الشرطة بالشرقية.
هكذا دون أي مقاومة أو جدال، نفذت الحكومة مطالب الأمناء، ووضعت قانون التظاهر على الرف لأجلهم ولم تعاقبهم على أي مخالفة ارتكبوها وهم يرفعون مطالب قالت قيادات الوزارة إنها غير مشروعة.
بعدها قررت محكمة جنح الشرابية إخلاء سبيل أمين شرطة وفرد شرطة، بكفالة ألف جنيه بعد اتهامهما باغتصاب فتاة داخل سيارة النجدة، رغم أن نيابة الساحل كانت قد أمرت بحبسهما 15 يوما، ورغم أن تحليل الطب الشرعي أثبت أن السائل المنوي الذي وجد على ملابس الفتاة يخصهما.
لم تجد المحكمة مبررا لاستمرار حبسهما، بينما تجد محكمة أخرى ألف سبب لاستمرار حبس محمود محمد للعام الثالث احتياطيا بسبب جملة "وطن بلا تعذيب" التي كانت مكتوبة على ملابسه وقت القبض عليه!
في الأسبوع نفسه الذي حدثت فيه واقعة مستشفى المطرية، صفع أمين شرطة سيدة في محطة مترو الخلفاوي بحجة تعطيلها القطار المتجه إلى المنيب لمدة 10 دقائق تقريبا، الغريب أن اللواء أبو بكر عبد الكريم، المتحدث باسم وزارة الداخلية دافع عن الأمين باستماتة، وقال إنه لم يصفع السيدة، "ومفيهوش أي حاجة"، لكن مقدمة البرنامج عرضت الفيديو أمام اللواء أبي بكر والذي يكشف بوضوح ضرب أمين الشرطة للسيدة، فعلّق قائلا: «لا كده هنفحصه تاني»!
في الأسبوع نفسه أيضا، صفع أمين شرطة ممرضة بمستشفى كوم حمادة بالبحيرة على وجهها، مما أدى لإصابتها بانهيار عصبي ودخولها العناية المركزة، وذلك بسبب تأخر الطبيب في الكشف على نجله.
الغريب أن مصدرا أمنيا حاول البحث عن مخرج للأمين فأكد أنه فعل ذلك لأنه حاول تصوير استقبال المستشفى وهو خال من الأطباء والتمريض، فحاولت الممرضة منعه، المستشفى خال من التمريض لكن "ممرضة" حاولت منعه من التصوير. مبرر وجيه.
4-
الأزمة ليست في ارتكاب أمناء الشرطة جريمة تلو الأخرى، الأزمة في المجهود الجبار الذي تبذله الدولة وأجهزتها ووزارة الداخلية لحمايتهم من المحاسبة، ومن يراجع أرشيف الصحف في السنوات الخمس الأخيرة يدرك أن قرار إحالة ضابط إلى النيابة يتم اتخاذه بسهولة إذا ما قارناه بمجرد التفكير في محاكمة أمين شرطة.
نحن الآن أمام خيارين، إما أن تعامل الدولة أمناء الشرطة كبشر عاديين، وإما أن يمنحنا الأمناء نسخة من السيديهات التي يمسكونها على الدولة!