من المؤكد أنه لا يمكن اختزال مشكلات العالم العربي بكل تعقيداتها وتشعباتها في قضية المرأة، مثلما أنه لا يمكن عزل هذه القضية عن مجمل المشاكل والأزمات الكبرى التي يعاني منها العالم العربي مشرقا ومغربا، الرازح تحت ربقة الاحتلال الأجنبي والاستبداد السياسي والتخلف التنموي والتجزئة والانقسامات الدينية والإثنية والطائفية والحروب الأهلية وغيرها. إلا أنه مع ذلك لا يمكن التهرب من الإقرار بكون المرأة العربية - رغم أنها تقاسم الرجل العربي العديد من المشاكل- تتحمل في الغالب القسط الأوفر من أعباء هذه المشكلات في واقع لا يخلو من ثقافة التمييز وطغيان العقلية الرجولية، خاصة بين الفئات الأقل حظا في التعليم والتنمية الاقتصادية.
أنا لا أستسيغ كثيرا فكرة النسوية المقابلة القائمة على التمركز حول الأنثى كردة فعل على واقع وثقافة التمركز حول الرجل، فقضايا المرأة العربية لا يمكن عزلها بأية حال من الأحوال عن الأوضاع العامة والقضايا الكبرى التي يواجهها العالم العربي، من قبيل الميراث الاستعماري الثقيل والفقر والأمية وضعف النظم التعليمية والصحية والأزمات السياسية والحروب وانعدام الاستقرار وغيرها من المشكلات. ولكن بالمعطيات الموضوعية، واضح أن المرأة العربية هي المتضرر الأكبر من سجل الإخفاقات والأزمات التي تمر بها المنطقة، فنصيبها من الصحة والتعليم والحضور في المجال العام أضعف وأقل من الرجل، أما حظها من العنف والضيم والتهميش والتمييز فأكبر وأوسع.
علاوة على هذه الظروف الموضوعية والعوامل البنيوية الاجتماعية والسياسية التي تكبل مقدرات المرأة والرجل بدرجات مختلفة في العالم العربي، تعاني المرأة المسلمة عامة، بما في ذلك العربية، من ثقافة دينية يغلب عليها الطابع الرجولي في الكثير من المناحي، ليس لأن الإسلام دين رجولي، فالخطاب القرآني قائم على المعاني الكلية الجامعة التي عنوانها “يا أيها الناس” و“يا أيها الذين آمنوا” (مع التخصيص في حالات معينة قليلة). لكن الثقافة العامة في المجتمعات التقليدية المسلمة تظل متحيزة ضد المرأة في الكثير من الأحيان. صحيح أن العائلة المسلمة توفر قدرا غير قليل من الحماية والتضامن لأفرادها كما أنها تحيطهم بدفء عاطفي مهم، ومع ذلك تظل الأنثى عرضة للكثير من مظاهر الضيم والتمييز المشرعن دينيا في إطار الأسرة والمجالات العامة.
رغم أن الإسلام قد نحى منحى الكونية الجامعة وحرر المرأة من الكثير من القيود والإكراهات إلا أن ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن أغلب من يشتغل بتأويل النصوص الدينية وقراءتها هم من الرجال، علما بأنه لا يمكن فصل أي نص من النصوص، بما في ذلك النصوص الدينية عن عمليات التأويل التي تخضع لها وطبيعة السياقات التاريخية والثقافية التي تجري ضمنها عمليات التأويل، وهذا ما يسمح بالقول إن الاجتهاد الديني عامة والمنظومة الفقهية خاصة أكثر تحيزا للرجال وتعبيرا عن رؤاهم وأهوائهم ومصالحهم على حساب مكانة المرأة وموقعها. كما أن المجتمعات القديمة المشبعة بالقيم الرجولية والتحيز ضد النسوة قد اتجهت لوضع قيود شديدة على المرأة فعزلتها عن الشؤون العامة، وضيقت من دورها فحصرته في الواجبات الزوجية والإنجاب وشؤون البيت وليس أكثر، رغم أن الرسالة التحررية التي جاء بها الإسلام أعطت مكانة سامية للمرأة باعتبارها كائنا حرا عاقلا مكلفا ومسؤولا ومعنيا بأحكام الدين وواجباته على قدم المساواة مع الرجل (إلا ما كان خصوصيا)، وهي فضلا عن ذلك مستخلفة في الأرض مثلها مثل الذكر.
ورغم أن التاريخ الإسلامي يزخر بنماذج نسوية متحررة خاصة في العصر التأسيسي الأول، والعصر العباسي والحقبة الأندلسية بأقدار متفاوتة، إلا أن هذه النماذج بقيت عبارة عن ومضات منيرة في محيط يغلب عليه واقع التهميش والإقصاء والاستنقاص من شأن المرأة والتسلط على إرادتها. وقد ازدادت القيود المكبلة للمرأة تحت غطاء الشرف والحياء والحشمة في العصور المتأخرة، حتى إن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تتعلم الكتابة أو أن ترى أحدا ويراها أحد سوى الزوج والمحارم، فحُرمت المرأة من التعليم ومُنعت من الذهاب إلى المدرسة وحُظر عليها حتى الذهاب إلى المساجد وأضحى مجرد ذكر اسمها في الفضاء العام مدعاةً للخجل.
في العصر الحديث بذل الإصلاحيون الإسلاميون، من أمثال محمد عبده وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي والطاهر الحداد وعبد الحميد بن بأديس، جهدا في التصدي للمظالم المسلطة على المرأة من داخل المنظومة الإسلامية، من خلال تقديم اجتهادات دينية تبدو متحررة إذا وُضعت في سياقها التاريخي، وقد انصبت جهودهم على مقاومة ما اعتبروه ثقافة التقليد والجمود والانحطاط انتصارا للاجتهاد والتجديد ودفاعا عن فكرة المساواة بين النساء والرجال. ورغم عمليات الصد فقد زرع هذا التيار البذور التأسيسية لتيار نسوي تحرري من داخل المنظومة الإسلامية.
تشكل فيما بعد على أنقاض هذه المدرسة تيار نسوي لا يؤسس شرعيته من داخل الإسلام، بل يرى في الدين عقبة أمام اكتساب المرأة حقوقها وحريتها. في مقابل ذلك نحا التيار الإسلامي الذي تشكل منذ عشرينيات القرن الماضي منحى المحافظة، في تمايز عن التيار الليبرالي الذي رآه الكثير من الإسلاميين امتدادا للثقافة الغربية المهيمنة وتابعا لها. ورغم أن منتسبي الحركات الإسلامية في معظمهم خريجو المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية الحديثة، إلا أنه قد غلب عليهم طابع المحافظة والتحوّط من المرأة، وتراوح بعضهم بين تغييب المرأة تماما والحديث نيابة عنها، أو فسح مجال محدود لمشاركتها، بحصرها في قضايا ذات صلة بالتنشئة والأسرة في أحسن الحالات. دون أن ينفي ذلك وجود تجارب متحررة نسبيا في تركيا وتونس والمغرب.
السؤال الرئيسي اليوم هو: كيف يمكن الخروج من هذه الثنائية الحادة بين أن تكون المرأة ليبرالية ساخطة على الإسلام متوترة من الثقافة الإسلامية، وبين أن تكون إسلامية تستبطن العقلية الذكورية وتدافع عن المحافظة وتهميش دور المرأة واختصاره في مجالات معدودة محدودة؟
هناك حاجة ماسة لتشكل تيار نسوي إسلامي ينتصر لحقوق المرأة ويناضل من أجلها لانتزاع موقعها في الحياة العامة، بما في ذلك داخل المجال السياسي ندا للند مع الرجل ويرفض كل أشكال الوصاية على كيانها وخياراتها. ولكنه تيار متحرر من العقد التي لازمت التيارات النسوية اليسارية والليبرالية العربية ونظرتها العدائية للدين والاستعلائية للمجتمع، بما جعل هذه التيارات أشبه ما يكون بناد نخبوي مغلق، حصرا على بعض الجيوب الحضرية المرفهة التي جعلت من قضية المرأة العربية ضربا من الترف الفكري والسياسي.
هذا التيار يجب أن يكون متشبعا بإرادة الدفاع عن المرأة ومصالحها وحقوقها، ولا يتردد في الدفاع عن اجتهاداته النسوية للنصوص الإسلامية، ولكنه أيضا مندمج في النسيج المجتمعي يعبر عن أعباء وهموم وأوجاع المرأة العربية في الريف والمدينة، وبين الطبقات الوسطى والفقيرة الكادحة داخل مجتمعات ينهشها الفقر والقهر والجهل والأمية وضعف التنمية. نحتاج تيارا نسويا أصيلا متصالحا مع هويته العربية الإسلامية ومستجيبا لحاجيات المرأة الحقيقية وليست المفتعلة، تيارا يمتلك الجرأة الكافية للدفاع عن مصالح المرأة وينتصر لحقوقها وتوسيع مكاسبها ويتصدى لعمليات التوظيف لقضية المرأة من طرف الحكومات والنخب لحساباتها الخاصة.
التحدي هو أن يكون حضور هذا التيار فاعلا وملموسا ليس في المجتمع فقط بل داخل الهيئات والمؤسسات الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الرجولي والأبوي، لافتكاك المرأة موقعها والذود عن مصالحها.
جميل جدا أن نتحدث بصورة مدحية عن الإسلام العظيم الذي كرّم المرأة وشّرفها. لكن الأهم من هذه المعزوفات التي غدت شائعة ومألوفة لكل المشتغلين داخل الفضاء الإسلامي، هو أن تُتَرجم مقولات الحرية والمساواة هذه على أرض الواقع، من خلال وجود نسوي فاعل ومؤثر على كل المستويات، بما في ذلك تلك التي تٌصاغ فيها التوجهات وتوضع السياسات وتُصنع القرارات.
ما نحتاجه هو قليل من الخطابات الذرائعية التي تدعي الانتصار لحقوق المرأة والكثيرَ الكثيرَ من العمل لتجسيد حضورها فعليا في الشأن العام وعلى أرض الواقع.