كتاب عربي 21

كيف يتحول التوحيد إلى وثنية.. والتحرير إلى استعباد!

1300x600
مما جاء في تفسير قوله تعالى: "وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا"، كما في تفسير الطبري مثلاً، أنّ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا "كانوا قومًا صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم"، وجاءت مصادر الشيعة أيضًا بما يشبه هذه الرواية، كما أخرج ابن بابويه القمي المعروف عندهم بالصدوق، في كتابه علل الشرائع، والطبرسي في تفسيره مجمع البيان.

إنّ علة الاتجاه الوثني في هذا النموذج، تبدأ من اختزال المثال، والذي هو الصلاح هنا، في صورة مادية محسوسة ومُدرَكة، فالرجال الصالحون، في الوعي المعلول، هم الصلاح عينه، أو رديف الصلاح، فلا يعود الصلاح، أو أي قيمة أخرى، مثالا متساميا على الامتلاك، وأفقًا متحررًا من التحكم، والاستغلال، وإنما قيمة متحققة نهائيًا في تجسيد مادي، يدّعي الامتلاك، أو تدّعي جماعة من المستغلين امتلاكه، ويبدو نموذج المسيح، عليه السلام، من أوضح الأمثلة على قوة هذه النزعة الوثنية المادية، والتي بلغت حدًا من السطوة على الوعي البشري أن يطلب بنو إسرائيل من نبيهم موسى، وبعدما شهدوا بعضًا من أعظم آيات ربهم، أن يجعل لهم إلهًا صنما، كما شرحت ذلك الآية القرآنية: "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون".

بيد أنّ علّة هذا الاتجاه الوثني لا تتشكل من نزعة تجسيد المثال فحسب، ولكنها قد تبدأ من الانبهار بمظاهر القوة، وما ينجم عنه من عمى عن رؤية ما وراء القوى الظاهرة، وما أمامها، فصار تحكم الفرعون بالاقتصاد النهري، وكأنه تحكم في الطبيعة "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون"، فالبصيرة الواقعية بحسب الإيديولوجيا الفرعونية، والتي تضمن إخضاع الناس، لا تعني سوى العمى عن الحقائق التي تفيد بأن الفرعون لا يتحكم في الطبيعة، وأن أسباب قوته فانية، كما أنه فانٍ.
أدوات فرعون لا تختلف عن تلك التي استخدمها الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، فجعل من سطوته، وقدرته على القتل والسجن، رديفًا لقدرة الله على الإحياء والإماتة، وهي سطوة بلغت حدًا من الهيمنة على ضمائر الناس، أنها أعمتهم عن رؤية السقوط المخزي لهكذا ادعاء أمام أبسط الحقائق "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب". وأهمية الوقوف على هكذا حقيقة بسيطة، تكمن في التأكيد على نسبية القوة المادية، بما يجعل هزيمتها، أو التحرر منها، حقيقة قائمة دائمًا، فلا تجسيد للقوة المطلقة، ولا نهاية لتاريخ القوة.

ولعلّ تشرّب بني إسرائيل لهذا النموذج المادي لمفهوم القوّة هو الذي حال دون إيمانهم، أو دون اكتفائهم، بالقوة المطلقة الغيبية التي أسفرت عن نفسها بتجلياتها المعجزة، فطلبوا نموذجًا ماديًا محسوسًا ومُدْركًا يعبدونه، وبالصورة التي أعادت نفسها مع المسيح، فلم يكن المسيح في الوعي الوثني مجرد مظهر لتلك القوة، ولكنه كان عينها، يخلق ويشفي، دون أن يستحضر ذلك الوعي، مفهوم "إذن الله" الذي ألحّ عليه المسيح كثيرًا.

غير أن هذه النزعة التي تبدأ من اختزال القوة في ملموس مادي، قد تتحول بدورها إلى تجسيد الفضائل في هذا الملموس، في نمط من الوثنية المركبة، تقوم على عبادة القوة وعلى اختزال الفضائل في القوي المعبود، فالقوي الذي يحقق الإنجازات المادية على الأرض، هو التجسيد النهائي للقيم المتعالية، فكان الاتحاد السوفييتي في الوعي الوثني لدى ملايين الماركسيين في العالم فردوس العدالة والمساواة وحرية الشعوب، أو الصين الماوية في حينه، كما صارت أمريكا فردوس الحرية والكرامة الآدمية لدى عبّادها والخاضعين لقوتها من معتنقي الليبرالية.

لا يختلف الأمر مع حالات إسلامية، يختلط فيها الانبهار بالقوة بتجسيد الفضائل في القوي المُبهر، سواء بدأت العبودية المركبة من الاعتقاد بسمو النموذج في تعبيره عن الفضائل أو عن الحق، أو بدأت من الانبهار بقوته، أو تزامن مركبي العبودية في لحظة البدء، فقد علق البعض عند شعارات الثورة الإيرانية الأولى وانغلق بصره خلف أقنعتها الإيديولوجية، فلم يعد قادرًا على رؤيتها كمشروع بشري تتحكم فيه عوامل متعددة ومتباينة، قابل للانحراف أو التحول أو التحوصل في مشروع خاص متعارض حتى مع الشعارات الأولى والادعاءات الإيديولوجية. ثم عزز هذا الانئسار للحظات تكون الوعي الأولى، وبما يعمي عن رؤية المجريات كما هي، الإنجازات السياسية التي صارت دليلاً على صحة الاتجاه، فالحق يُعرف بالإنجاز المادي على الأرض! مع أن الدعوات التي بدأت على أيدي الأنبياء، لم يمنعها ما مثلته من حق زمن النبوة من الانحراف لاحقًا، بما في ذلك التجربة التاريخية الإسلامية التي اعتراها ما اعتراها في لحظات تالية على رفع النبوة من الأرض، لكن مشروع الخميني لا ينحرف أبداً!

كما نرى أن البعض علق عند مقاومة حزب الله، وصار حزب الله عنده مطلق المقاومة، وكل فعله مقاومة، ولأن المقاومة فعل نبيل، فإن كل أفعاله نبيلة، ولأن القضية عبودية، وشكل من أشكال التدين، والأديان أنساق متباينة، فإن ما يجوز لحزب الله باسم المقاومة، لا يجوز لغيره حتى لو كان أكثر منه مقاومة!
وهكذا يعاد تدوير المشاريع التحررية، والقيم المؤسسة لفعل المقاومة، لتتحول إلى مشاريع كراهية وقتل واستعباد للناس، باسم القيم المؤسسة تلك، والتي تجري مصادرتها واحتكارها، وتعود الوثنية أداة للاستغلال، باسم المسيح، أو باسم السلف، أو باسم آل البيت، أو باسم الحسين، أو باسم المقاومة، أو باسم الخلافة، بل وحتى باسم التوحيد، وتبدو "داعش" هنا مثالاً جيدًا، على هذا النمط من العبودية المركبة، الذي تستخدم فيه الإنجازات على الأرض، القوة، دليلاً على الحق، فـ "باقية وتتمدد" دليل قاطع على الحق!

وقد كانت الخبرة الإسلامية مع هذه الوثنيات التي تدّعي القضاء على المثال وإنزاله من تعاليه إلى صورة المادي الدابّ على الأرض، قديمة، وبما يشبه تلك النزعة التي مثّلها بنو إسرائيل، كما في الحديث "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي"، إذ أعادت هذه النزعة تشكيل نفسها في التاريخ الإسلامي في نظرية (الحُجَج المُحَدَّثين المعصومين) الذين لا بد من استمراراهم من بعد النبي لقيام الحجة على الخلق، وهم بحسب تصور التشيع الإمامي الصارم رجال معدودون من آل النبي.

وبدرجة أقل، بسبب نسبيتها وتعميمها الحق على أعداد كثيرة من الناس، تأتي نظرية تجسيد السلف للحق، والتي ترفع التاريخ إلى مرتبة الوحي، وتتيح دائمًا خلق جماعات متنوعة من المستغلِّين، الذين يدّعون، بانتقائية وانتهازية كبيرتين كما هو حال هذا النوع من الإيديولوجيات، تمثيل الحق واسعادة نموذج السلف وإخضاع الناس باسمهم أو التغطي باسمهم.

وليس غريبًا أن هذه الوثنيات، عادة ما تنحرف في ممارستها عن القيم النبيلة المؤسسة إلى درجة التنكر لها، فهي بعد أن تؤسس لنفسها بإيديولوجية قيمية، وبنقد السابق الذي انحرف عن تلك القيم، تعود هي بدورها للتنكر لتلك القيم بعدما تدّعي تجسيدها في ذاتها، فتصير الذات هي القيمة، وتفقد القيمة الأصلية تساميها، فمن أسس لنفسه على نقد الانحراف عن الشورى قد ينحرف مشروعه لاحقًا، في نظرية أكثر استبدادًا وافتئاتًا على الأمة، كنظرية الوراثة العمودية للإمامة، أو أكثر انغلاقًا بتكفير عموم المسلمين أو المخالفين كما في حالة الخوراج.

وهكذا شأن العديد من المشاريع المعاصرة، التي أسست لنفسها على مقولات نقدية نالت بها من صحة أو شرعية من سبقها، انحرفت هي بدورها عن مقولاتها، ولم يبق لها من لحظات التأسيس سوى مشاعر الكراهية، التي تصاحب عادة ظروف التأسيس وطبيعة النقد المؤسس، فكم من حركة "ثورية" تلتصق اليوم بأذيال الطغاة وتتحدث باسمهم، ولم يبق لها من "ثوريتها" سوى كراهيتها للذين أسست نفسها على نقدهم!