كتاب عربي 21

بن علي رجع!

1300x600
في الذكرى الخامسة لـ"هروب" الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بنعلي من البلاد في اتجاه المملكة العربية السعودية، وقف الحبيب الصيد، أحد من عملوا تحت إمرة نظامه، أمام أول برلمان منتخب بعد "الثورة" ليحصل على ثقة النواب للنسخة الثانية من حكومته التي عاد من خلالها رموز من العهد البنعلي لتسلم زمام الحكم، ليس أقلهم من كان مسؤولا لمكتب الاتصال التونسي بالكيان الصهيوني.

حصل الحبيب الصيد على "الثقة" في حكومته، التي ألغت بالمناسبة كتابة الدولة المكلفة بشهداء وجرحى الثورة إيذانا بإغلاق آخر ملف مرتبط بـ"الربيع"، بفضل أصوات نواب حركة النهضة "الإسلامية" التي ارتضت أن تكون مجرد تكملة عدد في الديكور السياسي الجديد، وأن تلعب دور المحلل لعودة النظام السابق لتسلم دواليب حكم تونس، بدعوى البحث عن الاستقرار وتفويت الفرصة على الأعداء الراغبين في تكرار النموذج الانقلابي المصري بتونس "ثورة الياسمين". قبل يوم التصويت على الثقة كان الشيخ راشد الغنوشي ضيف الشرف على المؤتمر التأسيسي لحزب نداء تونس، النسخة الحمراء من الأصل البنفسجي للتجمع الدستوري الديمقراطي، وقوبلت كلمته بعاصفة من التصفيق وتعاليق الإطراء. هذا حال تونس بعد خمس سنوات من "الهروب".

الربيع التونسي..

يدخل وليد على صديقه موحا ويوقظه من سبات عميق.

وليد: موحا، قم من النوم. الشوارع تغلي.

موحا (وهو يفرك عينيه): ما ذا تعني؟

وليد: المظاهرات تملأ الشارع والمتظاهرون يحاصرون وزارة الداخلية.

موحا: كفاك مزاحا.

وليد: أقسم بالله أنها الحقيقة. يبدو أن أوان رحيل النظام قد حان.

يخرج موحا من السرير ويلبس سرواله.

وليد: ماذا تفعل؟

موحا:سألتحق بالمظاهرة. ألن تأتي معي؟

وليد: لا. أبدا. لن أذهب إلى الموت بساقاي.

موحا: أأنت خائف؟ ستندم على ذلك فالتاريخ سيكتب في غيابك.

وليد: هل تعتقد أنك ستغير شيئا. بحضور بنعلي أو غيابه لن نستفيد شيئا. 

موحا: أتركني. أعرف أنك ستتدبر أمرك في كل الحالات.

وكذلك كان..

ليس هناك من مشهد أكثر تعبيرا على ما عاشته تونس يومي الثالث عشر والرابع عشر من شهر يناير من العام 2011 من هذا الحوار الذي جمع وليد، الذي دخل القصر الجمهوري قارئا لفنجان ليلى الطرابلسي، وموحا، الفنان الفاشل الذي عاد أدراجه دون المشاركة في المظاهرات لمجرد تلقيه اتصالا من مهرب للمهاجرين يخبره بالاستعداد لرحلة طال انتظارها يستغلون خلالها الفوضى التي تشهدها البلاد. والمشهد من فيلم "الربيع التونسي" المنتج في العام 2014 للمخرجة رجاء عماري.

فبعد أسابيع من التظاهرات الدموية بمناطق الجنوب النائية، استلم أبناء المدينة بالشمال المشعل وخرجوا يوما واحدا للتظاهر أمام وزارة الداخلية ليعودوا إلى أسرتهم على وقع صوت مواطن تونسي كسر سديم الليل وحظر التجوال للإعلان بصوت عال أن "بنعلي هرب.. بنعلي هرب"، ويستيقظوا بعدها على مجهول عُهِد إلى فؤاد لمبزع بتسييره إلى حين. لقد واصل منتسبي ورموز نظام بنعلي سيطرتهم على أركان الحكم منذ اليوم التالي لما اصطلح على تسميته "ثورة الياسمين"، بعد أن سمحوا لبعض القادمين الجدد وكثير من معارضي الواجهة بتولي بعض المناصب عربون وهم المشاركة السياسية في تقرير المصير. واليوم، هاهم يعودون بقوة في السياسة والإعلام ومختلف مناحي التدبير العام. لكن كثيرا من التونسيين لا زالوا يطرحون السؤال: ما الذي حدث بالضبط في الرابع عشر من شهر يناير 2011؟
ما نموتش..

وفاز حزب النهضة بانتخابات المجلس التأسيسي ومعه كثير من الكائنات الانتخابية غير المتجانسة وجدت نفسها في مقدمة التعبير عن طموحات "الثورة" وتكريس "مكتسباتها". وفي الخضم، تناسلت الأحزاب وقنوات الإعلام البنفسجي تحضيرا للمرحلة القادمة، وظهرت محدودية الكفاءة لدى الحكام الجدد وارتبكوا، مع تغير المناخ الاقليمي والدولي فجأة، ليستسلموا للواقع ويرتضوا تكملة العدد مصيرا ولو مثلوا أغلبية البرلمان، فتونس على ما يبدو تكاد تلفظهم  أو هكذا يخافون.

يدق حمزة، الذي خرج من السجن إبان "ثورة الياسمين"، باب بيت عائلة حبيبته السابقة عائشة بعد أن وجد نفسه غريبا في مجتمع يرفض رغبته في "تطبيق شرع الله"، فاكتشف متأخرا إيمانه ب"الحريات الفردية" منهاجا.

تفتح عائشة الباب.

حمزة: عندي ما نقولك.

عائشة: مننجمش. بوحدي فالدار (لا أستطيع. أنا وحيدة بالبيت).

تتراجع إلى الخلف وهو يتبعها بهدوء ثم تغلق عليه الباب.

يقفان خلف باب البيت وهما يتحسسان كل من جهته الخشب والرغبة تتملكهما.

حمزة (بصوت خافت ومتوسل): عايشة، حللي الباب.

من وراء الباب ترتجف يد عائشة وهي تمتد إلى القفل وتفتح الباب بسرعة. يتواجهان مرة أخرى.

عائشة: تحب قهوة؟

حمزة: ماذا بي (يا ريت).

تأتيه عائشة يفنجان القهوة. صمت تام يسود الغرفة وهما يتابعان بعضهما البعض ويكادان يلتصقان وهما يتنقلان في أرجائها والنظرات تفضح رغبتيهما. عائشة تكسر السكون مرة أخرى.

عائشة: متحبش؟

حمزة: سخونة برشة.

تأخذ منه الكوب وتضعه جانبا. تعود أجواء الصمت لتسود المشهد من جديد. نظرات متبادلة وأصوات تنفس حادة.

حمزة: توحشتك (اشتقت إليك).

ثم يضمها إليه بقوة. تصده ثم تعاود الارتماء في أحضانه قبل أن تصده من جديد ليسقط جانبا.

عائشة: سيبني، اخرج. نعرفك كيف تخمم..

حمزة: سامحيني.. أستغفر الله.. أستغفر الله.

ثم يفر هاربا من الشقة كما دخلها في فيلم "مانموتش" للمخرج نوري بوزيد المنتج في العام 2012.

لم تستمر فترة "حكم" حركة النهضة طويلا حتى وجدت نفسها في أتون مد وجزر لم تكن مهيأة له على ما يبدو ما دفعها للانحناء للرياح العاتية حتى تمر سلام. لكن الخوف كل الخوف أن تطيل الانحناء لدرجة نسيان فعل القيام مجددا وأن ترتضي وضعية الخنوع وهي تعتقد أنها حسنا تفعل، فالحكمة حكمة والتفريط في آمال الشعب خيانة للمبدأ ولدماء الشهداء. رموز عهد بنعلي رممت صفوفها بعد أن فرطت "الثورة" في وقع المفاجأة التي حلت بهم ومنحتهم، بأخطاء المنتسبين إليها وضعف كفاءتهم، الفرصة للظهور بمظهر المنقذ بل فرصة التجرأ حد الوقاحة في إطلاق حملة" بنعلي رجع"  تنادي بعودته، والشعار "رغما عنهم سيعود الرئيس بنعلي إلى شعبه الوفي لإنقاذ تونس من عمالتهم وإرهابهم"، وضربت موعدا للتظاهر يوم 14 يناير.

قبل يومين من "هروب" زين العابدين بنعلي، دافع برهان بسيس على الرجل باستماتة خلال حلقة لبرنامج "الاتجاه المعاكس" اعتبر خلالها النظام التونسي نظاما قويا و سليل دولة وطنية. بعدها بأشهر حل برهان ضيفا على برنامج "الصراحة راحة" على قناة حنبعل التونسية وقد فقد من وزنه الكثير، وقدم اعتذاره لمن تأذوا من فترة حكم بنعلي معلنا أنه طلق السياسة بلا رجعة وأنه سيلزم بيته. اليوم خرج برهان بسيس من بيته منشيا يعطي الدروس ويصول ويجول في بلاتو برنامجه على قناة نسمة ومختلف بلاتوهات الإعلام البنفسجي الجديد. وفي المقابل وجد عدد من "شباب الثورة" أنفسهم حبيسي زنازن النظام الجديد، ووجدت مناطق الجنوب المحرومة نفسها مقصية من التنمية تثور بين الفينة والأخرى دون أن يستمع لأنينها أهل الشمال. أما عائلة البوعزيزي، الذي تغنى كثيرون باسمه، فلم تجد غير كندا ملجأ يأويها، وفي ذلك اختصار ل"ثورة" وجدها الجميع فرصة لتحقيق المكاسب سلطة أو مالا أو ظهورا إعلاميا أو مجرد هجرة أو سفر أو مشاركة في منتدى.

عود على بدء..

في الرابع عشر من يناير قبل خمس سنوات، عاشت تونس على وقع حالة طوارئ أعلنها القصر الجمهوري بعد أن أحس بالنار أقرب إليه من أي وقت مضى. اليوم، وبعد خمس سنوات كاملة، لا تزال تونس تحت طائلة حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس التسعيني الباجي قايد السبسي بعد استهداف الإرهاب لحافلة تابعة لحرسه الرئاسي...

يبدو أن الحكاية لم تبدأ بعد.