يلوح في الأفق القريب جدا اتفاق أمريكي روسي على مخرجات حلّ سياسي في سوريا، تُدجنُ فيه
الثورة السورية، وتُسَاقُ صاغرة إلى بيت الطاعة الدوليّة لتلحقَ بركب أخواتها العربيات التي حاولت شعوبها أن تعيش ربيع الحريّة. وقد عبّر وزير الخارجية الروسي لافروف عن ملامح هذا الاتفاق، من خلال الإشارة لتوافق
روسيا والولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية في سوريا.
وظهرت بوادر الاتفاق قبل هذا التصريح عسكريا على الأرض، فلا يصدق عاقل أن تقوم روسيا بأكثر من 5000 آلاف غارة على ما يسمى المعارضة المعتدلة والمدنيين دون موافقة ومباركة الولايات المتحدة، وإن نجحت القوى الدوليّة مؤقتا - نؤكد على كلمة مؤقتا - في وأد ثورات الربيع العربي حيث لا تزال النار تشتعل تحت الرماد، فإنّ فُرص نجاح القوى الدولية في سوريا تبدو ضئيلة جدا، وهذا ما يفسر امتداد عمر الثورة السورية.
ولن يفلح الاتفاق الأمريكي الروسي - فيما نزعم - في سوريا كما أفلح في مصر، فالظروف التي رافقت اتفاقهم على دعم انقلاب السيسي تختلف عنها في سوريا؛ نظرا للتركيبة الداخلية لسوريا من جهة، والتعقيدات الإقليمية من جهة أخرى. واتفاق الروس والأمريكان على دعم القوى المضادة للثورات العربية يجعلنا نؤمن بنظريّة المؤامرة.
ونذهب - كما أسلفنا - إلى فشل السيناريو الأمريكي الروسي انطلاقا من عاملين رئيسيين، الأول يتمثل بتركيبة النظام من جهة، وتركيبة المعارضة السورية من جهة أخرى. فالنظام السوري طائفي استبدادي تتركز فيه كل السلطات بيد رأس الهرم، خلافا للمعارضة السورية التي يبدو ظاهريا تشتتها، كما أنّ البون شاسع بين المساحة التي يسيطر عليها هذا وذاك، وكذلك التأييد الشعبي. وإن اتهمت المعارضة السورية زورا وبهتانا بأنها ثورة السنة، فإنه أحرى أن تنتصر، فالسنة يشكلون أكثر من 80 في المئة من تركيبة المجتمع السوري.
وبالعودة لتركيبة النظام والمعارضة، يصعب تشكيل - لا نقول حكومة انتقالية بل - حكومة وحدة وطنية، فالنظام السوري لا يقبل المشاركة، وطبيعته لا تقبل التغيير والإصلاح، فأي تغيير أو إصلاح حقيقي يؤديان لتصدعه وانهياره، ويعلم النظام هذه الحقيقة لذلك يرى الشراكة الوطنية بمنظار يختلف عن الآخرين.
ويمثل العامل الرئيسي الثاني نقطة ارتكاز ومعضلة ثانية تحول دون نجاح السيناريو الأمريكي الروسي. فطبيعة الصراع الإقليمي على الساحة السوريّة أخذت منحى وجوديا، ولم تعد مجرد مناكفات سياسية ومكاسب اقتصادية. فالحلف الإقليمي الداعم للثورة السورية متمثلا بالرياض وأنقرة، يعي الأثر السلبي المترتب على فشل الثورة السورية.
إذ ترى تركيا أن أمنها القومي سيكون في مهب الريح، فالأكراد وبالتعاون مع القوى الدولية يحثون الخُطى نحو بناء دويلة كردية في الشمال السوري، ستؤدي في حدها الأدنى لدخول تركيا نفقا مظلما من الصراعات الداخلية، لا يمكن التكهن بنهايتها. واستقبال روسيا لرئيس حزب الشعوب مؤشر واضح على ما يُحاك لتركيا.
وتبدو السعودية أكثر إدراكا للوضع، إذ لا زالت تتجرع السمَّ نتيجة الخطأ التاريخي المتمثل بترك العراق فريسة سهلة لإيران، وبالتالي لن تسمح بتكرار الخطأ ذاته في سوريا بعد أن تداركته في اليمن، وستحارب حتى الرمق الأخير، ولو بلا مخالب، فالطموح الفارسي لا يقف عند السعودية، وبالتالي يجب وقفه في سوريا، فالأمن القومي للدولتين (السعودية، تركيا) لم يعد مرهونا بالأسد وحده، إنما برحيل نظامه كاملا، وبالتأكيد لن تفرط الدولتان بأمنهما القومي.
وتصطدم السعودية وتركيا إلى الآن بالفيتو الأمريكي الذي لولاه لسقط الأسد منذ أمد بعيد، فلا زالت الدولتان مكبلتين، ولا تستطيعان تقديم الدعم إلا بقدر على أمل أن تفي الولايات المتحدة بوعدها، وتطيح بالأسد عبر حلّ سياسي يرضي حلفاء أمريكا، ولكن - فيما نرى - تذهب الولايات المتحدة حقيقة في طريق آخر يُعاد فيه إنتاج نظام الأسد، وتُدجن فيه الثورة السورية. وربما يأتي اغتيال الشيخ زهران علوش قائد جيش الإسلام، والقصف الهستيري للطيران الروسي على مواقع المعارضة المدنية (المشافي، الأسواق) والعسكرية في هذا المسعى.
ونفهم في هذا السياق أنّ الثورة السورية غدت ثورة أًمّة، وبالتالي فإنّ انتصارها سيشكل نقطة مفصليّة لا تحدد مستقبل سوريا وحسب، بل مستقبل المنطقة برمتها، وسترسم خارطة المنطقة لقرن من الزمان، وليس أمام السوريين وحلفائهم سوى رفض التدجين، وبناء بلدانهم وفق طموحات شعوب المنطقة، لا وفق أهواء القوى الدولية التي رسمت لنا حياتنا طيلة قرن مضى ويزيد.