كتاب عربي 21

حرية.. مساواة.. أمن: الجبهة الوطنية حزبا حاكما بفرنسا

1300x600
في الثاني والعشرين من شهر نيسان/ أبريل من العام 2002، نامت فرنسا على وقع وصول مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في مواجهة مرشح اليمين الديغولي جاك شيراك.

يومها عنوت الصحف والقنوات نشراتها بكلمة واحدة للتعبير عن الموقف: الصدمة. وعلى إثر نتائج الدور الأول من انتخابات المناطق التي جرت قبل أسبوعين تقريبا، عادت نفس الكلمة لتتردد بقوة بعد أن احتلت الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن الصدارة كأول قوة سياسية فرنسية بتقدمها في نصف المناطق الثلاثة عشر المكونة للنسيج المناطقي الفرنسي. وبين الاستحقاقين وقبلهما، كان تقدم الجبهة الوطنية واضحا في كل الانتخابات ولولا النظام الانتخابي المعد على مقاس الأحزاب التقليدية لترجمت عدد الأصوات المتنامية المحصل عليها إلى حضور وازن في المؤسسات.

الصحفي: أنت رئيس حزب يميني متشدد.

هوبير ليغل: أنا رئيس لحزب يميني حقيقي.

الصحفي: هل أنت بصدد تجميل الصورة المقدمة عنك للوصول إلى جمهور أكبر (كانت مناسبة اللقاء التلفزيوني صدور كتاب عن الطبخ أعده هوبير ليغل)..

هوبير ليغل: أبدا. لكنني سئمت من الصورة الكاريكاتورية التي يصدرها الإعلام عن شخصي.

سياسي من الحاضرين: عندما تدعون أنه بطرد المهاجرين سنجد عملا للعاطلين، أنتم من ترسمون صورا كاريكاتورية.

هوبير ليغل: منذ عقود ورجال مثلك يتناوبون على السلطة لممارسة هذا الشكل من السياسة. ماذا حققتم؟ بلد يكره فيه الجار جاره. إذا دروسكم في الديمقراطية احتفظوا بها لأنفسكم.

كان هذا مشهدا من الفيلم الفرنسي Feroce ، الذي يمكن ترجمته إلى "الشرس" أو "العنيف"، وهو من إنتاج عام 2000 وإخراج جيل دومايستر، وهو أول فيلم فرنسي تناول خطر وجود حزب يميني متطرف يمارس العمل السياسي بفرنسا واختار ممثلا فيه شبه كبير من جان ماري لوبن للإحالة على الجبهة الوطنية، وكان أداة في الحشد الشعبي للتصويت لجاك شيراك في الدور الثاني من انتخابات الرئاسة 2002 التي حصل فيها على نسبة 82 بالمائة، في سابقة فرنسية تحيل على انتخابات جمهوريات الموز التفت فيها أحزاب اليمين واليسار في مواجهة "الخطر المحدق بقيم الجمهورية". في انتخابات 2015، أعاد الحزب الاشتراكي الحاكم ذات الخطاب وقرر الانسحاب من ثلاثة مناطق وتشكيل "سد جمهوري"، رفضه زعيم المعارضة اليمينية التقليدية نيكولا ساركوزي، واستغلته مارين لوبن للإعلان في خطابها، بعد ظهور نتائج الدور الثاني التي حالت دون حزبها وتسيير أي منطقة فرنسية، أن فرنسا انتقلت من الصراع الانتخابي الثلاثي الأطراف إلى ثنائية قطبية في إحدى كفتيها طبقة سياسية نفعية لا وضوح في اختياراتها وخطها السياسي وحزب يميني حقيقي تمثله الجبهة الوطنية.

 أليس هذا ما قاله هوبير ليغل قبل خمسة عشر سنة في فيلم سينمائي؟

مارين لوبن أعلنت في ذات الخطاب الحماسي أن "لاشيء ولا أحد سيوقف زحف الجبهة الوطنية"، وأضافت" لقد رفضتم التلاعب وتحررتم من الضغوطات التي قررت في قصور الجمهورية وسخرت للمستفيدين من هذا النظام على حساب الفرنسيين. الكذبة التي يرتكز عليها النظام السياسي الفرنسي انكشف وهم يقودون البلاد إلى الفوضى". وبنفس الحماس أعلنت ماريون لوبن، الوجه الشاب الصاعد في صفوف الجبهة والحاصلة على 46 بالمائة من الأصوات في منطقتها، أن "هناك انتصارات يخجل منها الفائزون" وأن "فوزا يتحالف عشرة لتحقيقه ضد واحد هو في الأصل هزيمة". 

في فيلم "الشرس/ Feroce"، اجتماع لزعيم الحزب اليميني مع نائبيه ومسؤولة شركة للتسويق الإعلامي. والموضوع تقييم تأثير كتاب الطبخ للزعيم على الناخب الفرنسي المحتمل.

مسؤولة التسويق: علينا الإبقاء على نفس التوجه إلى جمهور معتدل دون الابتعاد عن الكتلة الانتخابية الأساسية من العنصريين. أفكار بسيطة لجمهور بسيط مع توزيع للأدوار بين أطر الحزب. يجب على الزعيم أن يبقى بعيدا عن الأفكار المتطرفة وأن يناقض مساعديه. خذ مثلا صورا أكثر مع السود والمسلمين. ليس الأمر صعبا. 

وفي مشهد آخر، وعلى إثر تصريح عنصري مثير لأحد مساعدي الزعيم قال فيه أن "الاندماج يعني بلد تأكل فيه الخنازير العرب" قبل أن يصدر بيانا توضيحيا لم يزد الطين إلا بله مفاده أن المعنى " بلد يأكل فيه العرب الخنازير"، اجتماع ثان.

مسؤولة التسويق: لقد طلبت منكم طمأنة العنصريين وليس إطلاق دعوات للقتل.

مساعد الزعيم: هذه الصورة الجديدة التي تحاولين تقديمها عن الحزب مناقضة لايديولوجيتنا وسعينا للدفاع عن عرقنا ونموذجنا الوطني.

مسؤولة التسويق: أنت تشتغل للتاريخ، وأنا عملي خلق موضات جديدة. وأنتم تدفعون لي جيدا لخلق مزاج شعبي وموجة تنتهي بانتخابكم.

هوبير ليغل: هذا كلام يخاطب وجداني.

وهو كلام خاطب وجدان الفرنسيين رغم كل حملات التشويه والإقصاء من وسائل الإعلام التقليدية التي استعاضت الجبهة عنها بالإعلام الجديد. لقد مكنت نتائج الدور الأول من تكوين صورة واضحة عن ناخب اليمين المتطرف وجاءت كالشكل التالي: 31 بالمائة رجال، 35 بالمائة من الفئة العمرية أقل من 24 سنة، 43 بالمائة من الطبقة العاملة، 36 بالمائة دون مستوى الباكالوريا، والأهم أن 92 بالمائة من المصوتين على مرشحي الجبهة سبق لهم التصويت على مارين لوبن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

صورة تأكد سيطرة الحزب على المفاصل الأساسية للكتلة الناخبة الفرنسية من الشباب إلى العمال.

مع مارين لوبن تحولت الجبهة من حزب احتجاجي إلى حزب قابل للوصول إلى السلطة وزاحف عليها.

وكانت لحظة "قتل" الأب جان ماري سياسيا وطرده من حزب بناه لبنة لبنة على مدار عقود ابتدأها عام 1972 وحصل معها على 0.74 بالمائة من أصوات الناخبين في رئاسيات 1974، نقطة البداية في مسار تجميل صورة الحزب وتنقيته من الشوائب التي علقت به دون تفريط في الكتلة الناخبة الأساسية المرتبطة به. فمع مارين لم تعد غرف الغاز "تفصيلا صغيرا من تاريخ الحرب العالمية الثانية" و"الاحتلال الألماني غير معدوم من الإنسانية" و"الأعراق غير متساوية" وغيرها من الخطابات التي كان والدها يحملها بين الحين والآخر. وهي السياسة ذاتها التي تتبناها الحفيدة ماريون وإن تميزت عن خالتها بانحياز أكبر إلى بعض الخطابات التقليدية لأقصى اليمين. وهي في الأول والآخر لعبة تبادل أدوار تأتي بالنتائج انتخابات بعد انتخابات.

والحقيقة أن النتائج الفعلية لقياس قوة كل حزب على حدة هي نتائج الدور الأول التي تخوضها التشكيلات السياسية دون تحالفات أو دمج لوائح أو انسحابات. في الدور الأول حازت الجبهة الوطنية 28 بالمائة كأول قوة سياسية وتقدمت في ست مناطق قبل أن تنقلب الآية في الدور الثاني حيث تقدم حزب الجمهوريين الساركوزي ب28 بالمائة حازها بتحالفه مع أحزاب وسطية وأيضا على إثر انسحاب الاشتراكيين من ثلاثة مناطق تحولت معها أصواته فيها لتصب في صالح الجمهوريين. أرقام الدور الثاني إذن خادعة، وهو ما بدا على تصريحات الطبقة السياسية الفرنسية التي صارت تعي أكثر من أي وقت مضى أن الانتخابات الرئاسية القادمة حاسمة وأن وصول الجبهة لرئاسة الجمهورية صار قريبا من أي وقت مضى. الأرقام الوحيدة المعبرة عن حقيقة انتخابية جلية هي تقدم الجبهة الوطنية غير المسبوق رغم كل الحملات الإعلامية والتخويف ورغم كل التحالفات غير الطبيعية بين اليسار واليمين. انتقل عدد المصوتين من 2.2 مليون في انتخابات المناطق لعام 2010 إلى 6.8 مليون في العام 2015 وتضاعف عدد المستشارين ثلاث مرات ليصل إلى 358 في وقت لم يحقق فيه الحزب الجمهوري غير 478 مستشارا بالدمج مع لوائح حلفائه وانسحاب الاشتراكيين من ثلاثة مناطق لن يمثلوا فيها بأي مستشار طوال خمس سنوات. لقد فشل ساركوزي في تحقيق مد التسونامي الأزرق الذي وعد به في مواجهة اشتراكيين أنهكهم الحكم وتوفقوا رغم ذلك في الاحتفاظ بخمس مناطق. وانتقلت اللعبة من المناطق إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة التي تؤشر على خريطة دور ثان مثيرة. 

ساركوزي يحاول لملمة خسارته، التي اعتبرت انتصارا، وهو الذي لم تنقل القنوات التلفزيونية تعليقه على نتائج انتخابات المناطق على الهواء مباشرة مفضلة الاستمرار في نقل كلمة مارين لوبن رغم أنه "الفائز المعلن"، ولم يجد ليلة الإعلان عن النتائج غير مقعد في ملعب سان دوني لمتابعة مباراة فريقه المفضل "باريس سان جرمان" في إطار الدوري الفرنسي بدل الاحتفال مع الأنصار. لم تكن تلك الضربة الوحيدة التي تلقاها ساركوزي فقد بادر عدد من الفائزين من حزبه للتقدم بالشكر إلى ناخبي اليسار ضدا على رغبته المعلنة بل ظهر ألان جوبيه ليلتها للحديث عن فرنسا التي يحلم بها كمرشح رئاسي قوي. أما الاشتراكيون فقد أظهروا مرة أخرى تخليا متناميا عن قيم اليسار التقليدية واقترابا واضحا من اليمين بل استعاروا جزءا  من خطاب الجبهة الوطنية المتطرف وتبنوه منهاجا. ولعل ايمانويل فالس، رئيس الوزراء، أكثر من يتمثل هذا التوجه في مطمح للانقلاب على رئيسه فرانسوا هولاند والمشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة ممثلا للاشتراكيين.

في فيلم "الشرس" تظهر ملصقات للزعيم هوبير ليغل وعليها شعار معدل لمبادئ الثورة الفرنسية التي صارت معه (حرية، مساواة، أمن) وهي بالذات المبادئ التي ترتكز عليها كل أطياف الطبقة السياسية الفرنسية بل صارت تتنافس في ترجمتها وفق الأهواء الأمنية لا غير. فالحرية صارت مسيجة بقانون طوارئ، والمساواة مجرد حلم والأمن يتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، والنتيجة فشل لطبقة سياسية تقليدية لم تعد قادرة على الإبقاء على منافعها ومناصبها إلا بانتهاج تجارة التخويف من إرهاب إسلامي قادم ومن يمين متطرف زاحف إلى السلطة يهددان قيم الجمهورية. لأجل ذلك تأكد أن الجبهة الوطنية هي الحزب الحاكم الحقيقي بفرنسا الأنوار.

وفي نهاية الفيلم ذاته، حوار بين مسؤولة التسويق والصحفي الذي ينجز تحقيقا حول الحزب اليميني بعد اعتقال أحد مساعدي الزعيم بتهمة قتل ألان، الشاب المغاربي الذي اختار له والده اسما فرنسيا لعله يحقق له المواطنة الكاملة، فالتحق الأخير بالحزب اليميني حارسا شخصيا للزعيم على أمل الانتقام لاختطاف أخته وقتل اخ صديقته من طرف أعضاء المنظمة في فترات مختلفة من تاريخها. انتهى المكاف بألان خارجا من سيارة وضع فيها من طرف أعضاء في الحزب وهو في غيبوبة للتغطية على جريمتهم. خرج ألان وهو ينادي باسم صديقته أمينة قبل أن تنفجر به قنبلة كانت ملفوفة بعناية على صدره. 

أليس هذا رديف حزام ناسف تعود "الإرهابيون" على استعماله وكذلك فعلوا بفرنسا؟

الصحفي: وهل ستواصلين علاقاتك مع المنظمة؟

مسؤولة التسويق: أليس هذا ما يفعله الجميع وأولهم أنتم الصحفيون الذين تدعونهم لموائد النقاش حيث ينفثون أفكارهم؟

الصحفي: أعتقد أن هذا النقاش هو التعريف الأصح للديمقراطية.

مسؤولة التسويق: صحيح. لكنه أيضا منتهاها حين يسمح لمن يريدون تدميرها بالتعبير. ليس هوبير ليغل هو الخطر، الخطر هو الناخب، قوة خطاب الكراهية، يوجد مخطط دولي حيث يتآمر الأشرار على الوضع الطبيعي للأشياء، وأنت كناخب لك السلطة لإفشال ذلك. ممتازة هي قوة الرفض. ليس هناك من جامع أكثر من الرفض. والوطنية بهذا الشكل ليست حبا للوطن بل كراهية للغزاة. وإذا لم تكن هناك من حرب تواجهها الجيوش نخلق أندية أو أحزاب سياسية للتخويف. الفاشية بالنسبة إلي هي اشتراكية الكراهية، نعم اشتراكية الكراهية".

ليست فرنسا وحدها معنية بهذا التحليل.

وتستمر القصة بملصقات للوسي، ابنة الزعيم هوبير، وجها جديدا للمنظمة اليمينية والشعار : دم جديد من أجل بلادنا، ودعوة للالتحاق بالحزب لتقوية صفوفه.. التفصيل الوحيد الذي الغائب عن الناخبين المستهدفين أن الجنين في بطن لوسي الحامل ثمرة علاقة مع الشاب المغاربي ألان، وهو تفصيل ينسف نظرية "نقاء العرق" ويجعلها مجرد وهم وأداة انتخابية للوصول إلى السلطة.