بين
الديني والفكر الديني، أو بين نقد الديني ونقد
الفكر الديني، مساحة مليئة بالمساجلة النقدية، كما جرى عند محمد أركون وحسن حنفي والجابري، وغيرهم، فالمفهومان دقيقان، وبينهما رأي ونظر، بحسب المهتمين بالدرس الفكري الديني.
ودلل محمد عابد الجابري على عمق النقد الديني بقوله إن "النقد التاريخي للنصوص الدينية "اليهودية"، بدأ مع سبينوزا في رسالته الشهيرة "رسالة في اللاهوت والسياسة"، واستدرك قائلا بأن بعض علماء المسلمين قد مارسوا أيضا على التوراة والأناجيل نقدا مشابها قبل سبينوزا.
المسألة هنا تتعلق أساسا بتحولات كبيرة خلقت خلطا بين نقد الدين محل اليقين، أو نقد الفكر الديني محل النظر والشك؛ إذ يرى نقادٌ أن فك الالتباس بين المسألتين ضرورة، كي لا يكون الأمر أشبه بالطعن بالدين من باب نقد الفكر، وحتى يكون الحِجاج حول الحرية الفكرية والاجتهاد مرتبط بتقدير المسافة الفاصلة بين الديني والفكر الديني.
وفي هذا السياق، يرى الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية بمركز
التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر، أن هناك فارقا كبيرا بين الديني والفكر الديني، مشبها ذلك بالفرق بين كالفرق بين الفقه والشريعة، أو بين الوحي والتاريخ.
ويضيف الشنقيطي، في حديث مع "عربي21"، أن تمثلات النص التاريخية، مهما بلغت من القوة والرصانة والدقة والحجية، لا ترتقي لمستوى قدسية النص".
الاجتهاد الديني والحرية الفكرية
وأوضح الشنقيطي أن أي محاولة لإسباغ القدسية على الفكر الديني، كمعادل لقدسية النص الديني، ستكون خللا كبيرا وخطرا على الدين، مشيرا إلى أن الأفكار التي تمحورت حول النص أنتجت مدارس تأويلية ظاهرية، فيما التي ابتعدت عن النص أنتجت مدارس باطنية، وكل هذا جزء من حركة الفكر الديني وليس جزءا من الدين.
في المقابل، يرى الشنقيطي أن تاريخ الأديان عموما مليء بـ"الجنايات التأويلية"، التي أضاعت جوانب من الدين تحريفا أو تأويلا، "وربما هذا ما كان سببا في تراكم كل هذا الغلو والتطرف"، كما يقول الشنقيطي.
وحول ما إذا كانت مثل هذه "الجنايات" تمثل حجة لدى البعض للانغلاق على النص وعدم الخروج إلى فضاءات
الاجتهاد، يرى الشنقيطي العكس من ذلك، وأشار إلى أن هذا "أدعى إلى فتح باب الاجتهاد من غير قيد ولا شرط"، معتبرا أن بعض ضوابط وشروط الاجتهاد لا معنى لها.
ويشدد الشنقيطي، في حديثه لـ"عربي21"، على ضرورة تجنب الوثوقية الزائدة بالفهومات التاريخية، قائلا إن "الفُهوم في عصر ما، قد تتحول إلى حُجُب حول النص والوحي في عصر آخر، ما يلزم بالضرورة الاجتهاد بلا قيود"، وفق تقديره.
وحول الإشكالية التاريخية العالقة بين النص والعقل، يشير الشنقيطي إلى أنها من المطبات التي وقع فيها الفكر الديني الإسلامي والمسيحي، موضحا أن النص ليس مقابلا للعقل، فيما العقول التي لا ترجع إلى نص تختلف وتتباين.
ويختتم الدكتور الشنقيطي حديثه، بالعودة إلى التأكيد على بقاء باب النظر والاجتهاد مفتوحا، قائلا إن "التدين يجب أن يظل منقوعا بالحرية، وأن الدين أو التدين من غير حرية عبودية وليس عبادة"، كما قال.
منظومة القيم في مواجهة منظومة الفكر
وفي المقابل، هناك من يرى أن الاستغراق الفكري في مسائل الدين ليست حجة في الدين، وأن التدين الفطري على مستوى الممارسة الأخلاقية يحوز رصيدا إيجابيا أكبر في حركة المجتمعات من التمسك بالمسائل الفكرية الدينية الجامدة.
من هذا المنطلق، ينظر الدكتور حسن أبو نعمة، مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمان سابقا، إلى الدين باعتباره محددا بالنص المقدس، أولا، وبمجموعة القيم والأخلاق من جهة أخرى.
ويقول في حديث لـ"عربي21" إنه ليس هنالك صعوبة في تعريف الدين، لكن ثمة صعوبة كبيرة في تقبل أن ينسب له كل هذا التطرف والغلو والإرهاب، متحدثا عن ضرورة أن يتم التعاطي التأويلي أو النظر الفكري في نصوص الدين لصالح القيم ومنظومة الأخلاق، فهذه القيم، وفق رأيه، هي المعيار الأساس لتفسير النص المقدس وليست القيم الفكرية.
ويرى أبو نعمة أن أغلب القراءات الفكرية للنص الديني إما مبنية على الشك أو التشكيك، أو التنازع على السلطة الدينية، متبنيا وجهة النظر التي تُغلِّب سلطة النص على سلطة الفكر المتشكل حول النص.
وعليه، يرى أبو نعمة، أنه لا ضرورة للشك والتشكيك أو العبث بالنص المقدس من أجل تأكيد قيمة فكرية أو منهج أيديولوجي معين، كما يرى أن الشك في المعنى النصي قد يخدم الغرض الفكري، لكنه بالمقابل قد يصدم إيمان المؤمنين بالنص.
وحول انتماء الديني إلى البعد التاريخي، وانتماء الفكر الديني إلى البعد العقلي الذي يركز على الحاضر والمستقبل، يعبر أبو نعمة عن اعتقاده بأنه لا مندوحة عن تطوير معاني النصوص، لكنه يعتبر أن مساحة هذا التطوير يجب ألا تتخلَّق للعبث الفكري، أو للبحث عن شكل تأويلي لنص معين وتوظيفه في السياق الفكري الخاص.
وقال: "أجد من التقصد الطعن بالدين بالبحث في نصوصه -تأويلا وتحريفا- عن نص يبيح حرق الأسرى على سبيل المثال".
ويوضح أبو نعمة أن مساحة تطوير معاني النصوص تضيق كلما ابتعدنا عن روح الرسالة، حينها يجب أن تبقى هذه المساحة في أضيق مستوياتها، في إشارة تأكيده على ضرورة تضييق الاجتهاد بشروطه اللازمة.
ويخلص أبو نعمة إلى القول: "أؤمن بأن الدين مسألة خصوصية -كما قال بذلك محمد أركون- لكنني أؤمن بأننا مارسنا عمليا، مفكرين وباحثين، قفزة في الهواء، بالبحث والنظر في الفكر الكلي، متجاهلين المنظومة السلوكية والأخلاقية للديني على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع"، وفق رأيه.