سبق ميلاد الدولة المستحدثة في الوطن
العربي وجود
الدولة الحديثة التي هي أمل كل مواطن يعيش في هذا الوطن، ومسعى الحراك الذي انطلقت شرارته من تونس مع إشراقة العقد الثاني من هذا القرن؛ لأن ملامح الدولة المستحدثة بدأت في الظهور مع أواخر القرن العشرين مصاحبة لانهيار دولة الخلاقة الإسلامية، حيث كانت كل بلاد العرب تخضع للسيادة العثمانية، ما عدا المغرب الأقصى الذي كان يمثل كيانا خاصا ومستقلا، أما باقي مناطق الوطن العربي فكانت تحت السيادة العثمانية على هيئة ولايات وقائمقاميات تتسع وتضيق بحسب النظام الإداري الذي تعتمده سلطة الباب العالي.
وبعد تفشي المرض في سائر جسد الرجل المريض وإعلان الغرب نياته الانقضاض عليه وتقطيع أوصاله وتقاسم أطرافه، شرع في استحداث كيانات تابعة له من خلال إنشاء الممالك والإمارات والمشيخات في الخليج العربي تحت حكم الأسر المتنفذة في تلك المناطق، وفُصل كل كيان عن الآخر، وحُددت لكل كيان المساحة التي تتناسب مع قوة الأسرة الحاكمة ووفق المعايير البريطانية، مع التأكيد على عدم تجاوز أي كيان ما خُط له ويكون تحت رعاية مباشرة أو بإعطاء الضوء الأخضر في مساحة حركته وتحديد سلطانه، وأن يكون تحت السيطرة ولا يسمح له بتجاوز الحد أو الصورة التي رسمت له، أي أن كل كيان صنع على عين الإنجليز وتحت سيادتهم بمعاهدة وصاية أو حماية، أو حتى جوار، مع حدود ترسم له وتحدد ملامح استحداثه وعلاقته بمن أحدثه.
وفي مصر قام الاستحداث على الاحتلال المباشر عام 1882م بقوة السلاح، وفرض الوصاية على الدولة والحماية للأسرة الحاكمة وممارسة سياسة التمهيد لاستحداث دولة السودان.
وقبل مصر قامت فرنسا باحتلال الجزائر 1830م، ومارست سياسة الاستحداث بتجربة الفرنسة واستبدال الهوية وإخراج الجزائر من دينها الإسلامي وتاريخها ولغتها وعمقها العربي، وهو ما عرف بسياسة الفرنسة.
قامت إيطإلىا باحتلال ليبيا عام 1911م واستحدثت ليبيا في القاموس السياسي والجغرافي، فتلتها فرنسا باستحداث تونس والمغرب بعدها بعام واحد فقط. وتواصل استحدث باقي الكيانات بعد الحرب العالمية الاولي 1914، وتعزز في معاهدة
سايكس بيكو عام 1916، حيث تم الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا على تقاسم كيانات المشرق العربي سوريا والعراق وفلسطين والأردن ولبنان، ثم اعقب هذه المعاهدة بعام وعد بلفور 1917 الذي ينص على استحداث دولة لليهود في فلسطين.
مما لا شك فيه أن ملامح هذه الكيانات كانت موجودة والمسميات معروفة منذ القدم، ولكن بعد الاستحداثات من خلال معاهدات إنجلترا مع كيانات الخليج، وبعد الاحتلال المبكر للجزائر من قبل فرنسا واحتلال مصر من قبل الإنجليز، ثم احتلال باقي دول المغرب العربي من قبل إيطإلىا وفرنسا، تأتي اتفاقية سايكس بيكو لتعتمد شكل كل كيان وتحدد الإطار المكاني والسكاني لكل إقليم، باعتماد حدود كل قُطر وتنصيب من يحكمه، وبالأصح من يقوم بإدارته نيابة عن المستعمر، وأحيانا بالمشاركة من خلال معاهدات الحماية أو الوصاية أو... واستمر هذا النمط من الحكم المباشر من الاستعمار أو بالإنابة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي صاحبت نهايتها موجة انسحاب للدول المستعمرة وتولي حكم البلاد أنظمة محلية ورثت المستعمر إدارة ما ورثته من كيانات تحت سلطتها، أخذت عدة أشكال وأنماط لم تخرج عن الإطار الذي صنعته واستحدثته الدول التي خلفت الحكم العثماني، حيث تولى حكم هذه الكيانات أنظمة وطنية تحت أشكال مختلفة اتبعت النظام الملكي أو الأميري أو المشيخي، واستحدث النظام الجمهوري الذي جاء عقب الحرب العالمية الثانية في سوريا ثم أخذ زخمه مع التغيير الذي حدث في مصر عام 1951م.
ظل هذا النمط المستحدث هو السائد في هذه الدول التي استحدثت بفاعل خارجي، وإن كان بتنسيق مع قوي داخلية محدودة ولها خصوصيتها التي تجعلها تتجاوب بل تتفاعل مع القوة الخارجية لتحقيق نفوذ أسري أو طموح شخصي، ولم يكن للقاعدة الاجتماعية العريضة من الشعوب الساكنة في هذه الكيانات أي دور، بل كانت في غفلة تامة عما يحدث، بل الكثير منها ليس له علم بما جرى إلا بعد سنين عديدة، وكثر لم يعوا ما حدث إلا بعد عقود من الزمن، ولم يكن للشعوب رأي ولا مشورة في استحداث هذه الكيانات ناهيك عن أن يكون لها دور فيها!!!
صاحب ثورة المعلومات تقارب أركان الأرض، وسهولة الحصول على المعلومات وانتشار الثقافة، مما سهل التعرف على مجتمعات أخرى تعيش ظروفا اقتصادية وسياسية أفضل، وتأثر هذا الجيل بمناخ الحريات السائد في المجتمعات الغربية، مما ولد الرغبة في النخبة شابة المتطلعة إلى الحرية والعدالة والمشاركة في صنع القرار، والعيش في ظل ظروف معيشية لا تختلف عن غيرهم من سكان هذا العالم الذي أصبح بمثابة بيت صغير، وهو ما دفع بهم إلى الخروج في كثير من مدن العالم العربي في موجة ثورية عرفت بالربيع العربي؛ الذي تميز برغبة القاعدة العريضة من المجتمع في تحقيق دولة حديثة هو من يحدثها ويشارك في وجودها أو إعادة ميلادها، ويحدد ملامحها ويضع معالمها ويحدد مقوماتها، دون أن تفرض علىه من خارج إطاره المعرفي وعمقه الثقافي، ولا تكون تحت وصاية طبقة أو جهة أو أسرة أو أي جهة مهما كانت، بل كان الأمل في دولة حديثة لا يمليها عليهم أحد. هم من يصنعها وهم من يقودها وهم من يشرف على ميلادها.
بدأ حراك ميلاد الدولة الحديثة بصورة حديثة وجيل حديث يخوض صراع مرير ومواجه صعبة مع أصحاب الدولة المستحدثة ورعاياها؛ من الذين عاشوا في كنفها ورضعوا حليبها حتى تضلعت جيوبهم وكياناتهم ومكاسبهم، وأصبحوا جزءا منها، فارتبط وجودهم بوجودها وكيانهم بكيانها، ولن يسمحوا في التفريط في مكاسبهم التي حصلوا علىها من الدولة المستحدثة، واعتبروا أن ميلاد الدولة الحديثة يعني إعلان شهادة وفاة لهم ولدولتهم، وهذا ما لم ولن يسمحوا به بسهولة.
فهل وعى هذا الجيل صعوبات الانتقال من الدولة المستحدثة إلى الدولة الحديثة التي ينشدها؟؟